هل صارت مباراة فى كرة القدم هى مشروع مصر القومى الذى تحتشد له الدولة المصرية شعباً وحكومة؟ لا مصر ستحقق شيئاً فى كأس العالم ولا الجزائر، والفريق الذى سيصل منهما إلى المونديال سيكون من فرق المستوى الرابع فى كل مجموعة، أى سيكون حصالة الأهداف التى تتسلى بجمعها القوى الكروية الحقيقية فى البطولة أثناء سعيها لبلوغ دور الستة عشر. هى ثلاث مباريات تعيسة لا أكثر سيخوضها الفريق الذى يصل إلى النهائيات، وما زلنا نذكر المباريات الثلاث التى لعبناها فى مونديال 90 عندما وقف اللاعبون الأحد عشر فى حلق المرمى طوال الأشواط الستة، ولم تكن لهم سوى هجمة واحدة فى المباريات الثلاث أسفرت عن ضربة جزاء! فهل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ هل يستحق كل هذا الهوس والجنون؟ لا هم سينافسون على كأس العالم ولا سيصعدون إلى الأدوار النهائية وسيحتاجون إلى الدعاء فى كل مباراة حتى تمر بأقل الخسائر. والله إننى لأعتقد أن الشيطان هو الذى يدير هذا الفيلم البائس، وأراه يجلس فى غرفة الكنترول ممسكاً بأزرار الميديا المقروءة والمصورة، وممسكاً أيضاً بخزائن الشعب الفقير المهزوم يوزع منها يميناً ويساراً على المشروع القومى للفوز على الجزائر بحجة أن هذا الفوز يرسم البسمة على شفاه المصريين. ألم يعد من أمل فى ابتسامة على وجوه المصريين إلا من خلال الفوز فى مباراة كرة؟ والله إن الحصول على رغيف الخبز بدون معارك طاحنة من شأنه أن يرسم فرحة حقيقية على وجوه المصريين خير من الجريمة التى يرتكبها ملوك الطوائف فى حق الشعبين المصرى والجزائرى، ومن أسف أن هناك مجموعة من الأشخاص يتصدرون المشهد بزعم أنهم من خبراء اللعبة، والحقيقة أنهم عبارة عن مجموعة من العاطلين والزلنطحية، ويندر أن يوجد بينهم شخص واحد متعلم أو تتعدى ثقافته قراءة صفحة الرياضة فى جريدة محلية، ومن أسف أن هؤلاء قد أصبحوا قادة الرأى فى هذه الأيام السوداء. إن المشكلة ليست بين مصر والجزائر، فلو أن المباراة كانت تقام بين مصر والسودان أو ليبيا أو تونس او المغرب أو السعودية أو الكويت أو أى دولة عربية أخرى كانت ستتحول على يد ملوك الطوائف إلى معركة حربية.. معركة تقوم فيها صحيفة معاريف الاسرائيلية بتهنئة الفريق الفائز كما فعلت بعد فوز الفريق المصرى بهدفين فى المباراة الاولى ضد الجزائر. المشكلة هى فى ملوك الطوائف وليست فى لاعبى المنتخبين..أولئك الملوك يقومون بحقن الناس بعقار الهلوسة، وليس عندى تفسير آخر لحالة الهستيريا الجماعية التى تسيطر على الشارعين المصرى والجزائرى سوى تعرضهما للحقن بعقاقير الفرفشة والهلوسة التى يزول مفعولها سريعاً ويترك صداعاً قاتلاً. إننى من فرط اشمئزازى مما يحدث لم أعد أحب الكرة التى ذهبت بعقول الناس وجعلتهم يستجيبون للشيطان القابع بغرفة السيطرة ويملأون الأفق صياحاً وصراخاً وعويلاً يتصورون أنه فرط وطنية وفرط محبة للوطن. إن الوطنية الحقة هى فى إبطال عرض الفيلم الردىء، ورفض المشاركة فيه ليس من أجل الحفاظ على العلاقات مع شعب شقيق، فهذا أمل أصبحنا لا نحلم بإدراكه ولكن من أجل الحفاظ على ما تبقى لنا من عقل وكرامة. هل من المعقول أن تصدر الأوامر إلى وزارة الخارجية بإدارة معركة مباراة كرة قدم مع فريق عربى؟ وهل من المعقول أن تنشر الصحف أن وزير الخارجية قد أصدر أوامره للبعثة الدبلوماسية المصرية فى الخرطوم بالإشراف على الملهاة وإدارتها وحشد الجماهير الكفيلة بتحقيق النصر؟ هل هناك عبث يفوق هذا العبث؟ إن البعثات المصرية فى الخارج قد تخلت منذ ثلاثين سنة عن المصريين ولم تعد تأبه لمشكلاتهم ومعاناتهم حتى إذا تعرضوا للضرب بالسياط على يد بعض الأشقاء المجرمين (والعجيب أن الجزائريين لم يكونوا أبداً ممن يهينون العمالة المصرية) لكننا بعد أن استسلمنا للجنون فتحنا بوابات جهنم على المصريين الموجودين بالجزائر دون أن نكون قادرين على حمايتهم أو استيعابهم فى سوق العمل الداخلية. إن المرء ليضحك من الأسى وهو يرى وزارة خارجيته تحتشد من أجل مباراة قد تمنح الناس سعادة زائفة فى حالة الفوز مدتها 48 ساعة على الأكثر، ثم بعدما يفيقون من آثار الحقنة يبحث لهم الجالسون فى الكنترول رووم عن جرعة أخرى فى أسرع وقت تعيدهم إلى الغيبوبة قبل أن يبدأوا فى الكلام فى السياسة أو يطالبوا بشربة ماء نظيفة أو طبق خضار لم يتم ريه بماء المجارى!. إننى مثل معظم الناس أحب الكرة وأستمتع بمشاهدتها، لكن ليس فى هذا السياق المجنون، وما رأيته طوال الفترة السابقة أصابنى بالحسرة على مصر التى ستخرج من المباراة بخسائر فادحة أيا كانت نتيجة المباراة.