فى سماء بيروت ليلة 13 نوفمبر 2009 (عائدة من المؤتمر الأدبى إلى القاهرة) جلست إلى جوارى فى الطائرة امرأة لا أرى منها إلا نصف عين، داخل كتلة من السواد، لا أستطيع من كتلة السواد أن أحدد ما تكون؟ امرأة؟ رجلاً؟ كائناً آخر من فصيلة الطيور أو النمور أو النسور، نصف العين الشاخصة نحوى نظرتها مكسورة كاسرة، خاضعة متحدية، ثائرة مستسلمة، قاهرة مقهورة، حاقدة مبهورة، أنفها مدبب بارز شامخ تحت السواد يشبه منقار نسر متحفز فى رعونة مرعوبة. ظلت ترمقنى بنصف عينها المزدوجة، صمتها ملىء بالازدراء والإعجاب، تنتقل نظرتها الجاحظة مثل جمرة مشتعلة، من وجهى العارى الملوح بالشمس وهواء البحر، وشعرى المشع بياض الثلج فوق الجبل، إلى كأس النبيذ فى يدى اليسرى، تلسع نظرتها أصابعى تحرق الجلد، لم يعد جلدى قابلا للحرق، ستة وسبعون عاما من الحرائق، منذ الولادة حتى الموت، وإن احترق جلدى تجدد (بعزيمتى) ليصبح سليما صحيحا لم يمسسه بشر، مثل حوريات الجنة تتمزق بكارتهن وتتجدد (بقدرة قادر) دون توقف إلى الأبد. أرشف على مهل النبيذ المعتق، مع حبات اللوز والفستق، وذكريات بيروت القديمة والجديدة، عشت فى بيروت الحرب الأهلية حتى عام 1980، أحمل لقب مستشارة بالأمم المتحدة، فى اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا (إيكوا)، مقرها الرئيسى كان فى بيروت حتى نقلوه إلى بغداد خوفا من الموت المتطاير فى سماء بيروت، لا أحد يعرف هوية الرصاصة: مسيحية مارونية إسلامية شيعية سنية علوية سورية إيرانية لبنانية، المقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة، اليمين الرأسمالى الليبرالى، اليسار، الشيوعيين والجبهة الشعبية، الوسط «فتح» وياسر عرفات، وقوات أمريكية إسرائيلية صهيونية عنصرية، وفصائل أخرى من الاستعمار من كل أنحاء العالم، وتوابعهم فى البلاد العربية وغير العربية. أخرج الصباح الباكر من بيتى فى «عين المريسة»، أمشى على شاطئ البحر، تتكسر شعاعات الشمس الرقيقة، فوق موجاته الصغيرة الناعمة، أجتاز «الروشا» وما بعدها، أحياء بيروت كلها أمشيها، مسافة الساعتين والنصف حتى مكتبى، لا يسير فى بيروت إلا من لا يملك سيارة ملاكى أو أجرة «سيرفيس»، من يضع حياته فوق كفه ويمشى، لا يعرف إن كان يعود إلى بيته ماشيا على قدميه أم محمولا فوق نقالة أو داخل صندوق. «الخطر»، «المخاطرة»، منذ الطفولة، تجذبنى، الرغبة فى الاستطلاع، فى هتك الحجب، فى معرفة كل شىء حتى الموت، ذهبت إلى الموت بقدمى الاثنتين، فلم أجده فى أى مكان أو زمان، اكتشفت أن عزرائيل غير موجود، لا يظهر إلا للأطفال السذج ومن يخافون منه، كانت جدتى الفلاحة تقول: «اللى يخاف من العفريت يطلع له»، لهذا كنت أمشى فى الليل فتهرب منى العفاريت وتختفى، لم يطلع لى فى حياتى كلها واحد من العفاريت أو الجان، الإناث أو الذكور، ملاك أو شيطان، وكانت جدتى تقول أيضا: «ما عفريت إلا بنى آدم». «النصف عين» داخل كتلة السواد تحملق فى وجهى، ثم يأتينى سؤالها المفاجئ بصوت خافت: «انت نوال السعداوى؟ أيوه أنا، ابتسمت «نصف العين» ثم كشرت بسرعة، سمعتها تهمس فى أذن زوجها الجالس إلى جوارها: «قلت لك إنها هى»، همس زوجها فى أذنها: بيطلعوها فى التليفزيون أكبر من سنها، همست فى أذنه: عشان يقولوا عليها عجوز شمطاء. ضحكت وقلت لهما: أمامى ثلاث سنين لأصبح فى الثمانين، صاحت «نصف العين» فى دهشة: يا خبر لا يمكن أصدق، قوليلى صحيح انت ضد النقاب؟ قلت لها: طبعا، وانتى لابسة نقاب ليه؟ قالت: لأنى مسلمة، ده أمر ربنا يا دكتورة؟ سألتها: مين قالك إن ده أمر ربنا؟ قالت: كل الناس اللى عرفتهم من يوم ما ولدتنى أمى، وجوزى كمان أهو قاعد جنبى يقولك. زوجها رجل قصير سمين يرتدى بدلة إفرنجية أنيقة، فى يده سبحة، طبيب أمراض باطنية، درس فى لندن، يؤكد لى أنه لا يؤمن بالنقاب، زوجته اختارت النقاب بكامل حريتها، وهى طبيبة مثله، قالت زوجته: أعالج النساء فقط، قلت: ما المشكلة، أنا عالجت الرجال، حين أكشف على أجسادهم لا أفكر فى الجنس بل أفكر كيف أعالج أمراضهم، حين أمشى فى الشارع لا أفكر فى الجنس، لهذا لست فى حاجة إلى حجاب فما بال النقاب؟ قالت: الرجال لا يفكرون إلا فى الجنس، قلت: دى مشكلتهم مش مشكلتى، عليهم تهذيب أخلاقهم لا أن أحول نفسى إلى كتلة من السواد، أو كائن مخيف مثل خفافيش الظلام. أنت تلغين شخصيتك الإنسانية، وجه الإنسان هو إنسانيته، من يرك لا يعرف ما أنت، فصيلة بشرية أم غير بشرية، حتى الحيوان لا بد أن نعرفه، تصورى أن تخفى الحيوانات وجوهها بالنقاب، كيف نعرف النمر من القط من الذئب من الكلب من غيره؟ سوف تثور الحيوانات إن أخفينا وجوهها بالنقاب، سوف تمزقه بمخالبها وتتحرر، الحيوان يكسر قيوده من أى نوع طلبا للحرية، أصبحت حقوق الحيوان مثل حقوق الإنسان قانونا محترما فى المجتمعات الإنسانية المتطورة، تم تحريم تغطية وجوه البقرات أو عيونها لتدور فى السواقى، تم تحريم حبس العجول أو الخرفان أو الدجاج، هناك قانون فى هذه البلاد يمنع وضع الدجاجات داخل أقفاص، أو فى غرف ضيقة تمنعها من اللعب والجرى والتريض، تؤدى الحرية إلى الصحة الجسمية والنفسية للدجاجات، وبالتالى تضع بيضا يفقس كتاكيت سليمة الجسم والنفس، فى إسبانيا اليوم قانون لإعطاء الحقوق القانونية للقرود، وتدخل حقوق الحيوان فى مناهج التعليم والمدارس منذ الطفولة. فى عام 1792 نادت امرأة اسمها «مارى ووستونكراف» بحقوق المرأة، سخر منها فيلسوف معاصر لها اسمه «توماس تيلر» وقال متهكما: «وحقوق الحيوانات أيضا»، كانت المرأة فى نظره أقل من حيوان، لم يهتم أغلب الفلاسفة بحقوق النساء منهم «أرسطو»، وأيضا الفيلسوف «كانت»، عارضه فيلسوف معاصر له اسمه «جيرمى بينثام» كان إنسانا حساسا يؤمن بحقوق النساء وحقوق الحيوان، قال: لو عرفنا لغة الحيوانات لأدركنا أنها تتألم وتتعذب لو حبست أو ضربت أو أهينت كرامتها، ورد عليه الفلاسفة الآخرون: هل نحمى أيضا حقوق الصراصير؟ فى القرن الماضى «العشرين» لم تكن حقوق الإنسان تشمل حقوق النساء، بل حتى اليوم لا يؤمن أغلب العاملين فى مجال حقوق الإنسان بحقوق المرأة، فى الهند هناك رجا ل يؤمنون بحقوق الهاموش أكثر من حقوق المرأة الهندية، إنهم يرتدون كمامة فوق أنوفهم ليس وقاية من الفيروسات بل حماية لأرواح الهاموش من الاختناق داخل صدورهم، ولا يتردد الرجل منهم فى حرق الأرملة بعد موت زوجها، فى الهند يمتنع بعض الناس عن أكل لحم البقر، فالبقرة مقدسة، يتوقف المرور فى بعض الشوارع احتراما للبقرة حتى تجتاز الطريق، وفى بلاد أخرى يمتنع الناس عن أكل الجمبرى حتى لا يتألم، ويحرمون ذبح الدجاجات لأنها تبيض. كانت الطبيبة المنقبة تنصت لما أقول، زوجها يتشاغل بقراءة الصحف، أذنه ناحيتنا، يتلصص لالتقاط الحديث فى توجس، يتدخل أحيانا بجملة قصيرة مقتضبة، يقول: النساء نالوا كل الحقوق، المرأة فى كل مكان، زوجتى طبيبة لها كل حقوقى، صاحت زوجته: لأ يا حبيبى، أنت تستطيع أن تطلقنى بإرادتك المنفردة حين تشاء، أنت تزوجت على امرأة أخرى دون إرادتى، وصاح الزوج الطبيب: ده حقى حسب أمر الله، ردت زوجته بغضب: أمر الله أم أمركم أنتم يا رجال؟ هبطت الطائرة فى مطار القاهرة، قبل أن نمر من مكتب الجوازات قالت الزوجة المنقبة لزوجها، «عاوزة آخد صورة معاها»، جذبها زوجها من يدها بغضب وقال: مش ضرورى، مافيش وقت، وانطلق بها بعيدا كأنما تطارده العفاريت والجان.