بعد يوم واحد من الحكم على قاتل مروة الشربينى بالسجن مدى الحياة، عادت مدينة دريسدن الألمانية لتخلو فنادقها من الصحفيين والإعلاميين والمواطنين المصريين الذين قدموا من برلين وفرانكفورت لمتابعة القضية عن قرب طوال الفترة الماضية. بدت المدينة الساكسونية «الشرقية»، صبيحة يوم أمس، هادئة كسابق عهدها، وعاد السكون يخيم عليها تدريجيا بعدما حزم المحامون حقائبهم، وتبادلوا التهانى بإغلاق القضية لصالحهم، بتوقيع العقوبة القصوى وفقا للقانون الألمانى على الجانى، غير أنهم خلفوا وراءهم بعد تلك الزوبعة ملفات حساسة تبدأ مع مخاوف الكثيرين عرب وألمان من صعود اليمين المتطرف، الكاره ل«الغرباء» و«الأجانب»، ولا تنتهى عند المخاوف من تنامى النفوذ الأصولى لدى بعض المسلمين الألمان أنفسهم، أو المقيمين منهم فى ألمانيا. وقفنا أمام الأرجوحة التى شهدت بداية الواقعة، يهزها الهواء دون أن تجد من يركبها اليوم، فالطقس بارد وقطرات المطر تتساقط فى هدوء يشبه حال دريسدن ذاتها. تتعجب أن تكون تلك الأرجوحة سبباً فى جريمة بكل تلك التفاصيل المزعجة والمؤلمة فى ذات الوقت، ينتابك السؤال: ماذا كان يحدث لو أن مصطفى، طفل مروة، الذى لم يتجاوز السنوات الثلاث لم يكن قد أصر على ركوبها؟ وماذا كان يحدث لو أن المتهم تعامل بإنسانية مع امرأة وطفل لم يفعلا له شيئاً؟ ولكن لو لا تفيد. تكمل المسيرة إلى منزل مروة وعلوى القريب من الحديقة والأرجوحة فى شارع «إليزنا». يبدو فى شرفة المنزل بالطابق الثانى بالبناية رقم 44، حيث كانا يسكنان، ذات المقعد الأسود من البلاستيك، الذى يبدو أن مروة كان يحلو لها الجلوس عليه فى بعض الأوقات. ندور حول المبنى ونذهب إلى مدخل المبنى، فنجده مغلقاً وعلى اسم دكتور علوى علامة حمراء، ربما تشير إلى أنه لم يعد يسكن هنا، وفى صندوق الخطابات الخاص به، بعض الرسائل التى لم يعرف مرسلوها أنه غادر المكان. يُفتح فجأة باب المبنى وتخرج سيدة ألمانية الملامح فى العقد الرابع من عمرها، تقف وتنظر لى للحظة، ثم تسأل بألمانيتها سؤالا لا أفهمه ولا أتبين منه سوى اسم «مروة»، تبدو على وجهها علامات الأسى، فأفهم أن الحجاب ذكّرها بمروة التى كانت تسكن معها فى نفس البناية. تتركنى وتسير لوجهتها، نضغط على زر شقة السيدة «هاينزل»، إحدى جارات مروة التى كانت تربطها بها علاقة وثيقة. تستقبلنا، للمرة الثانية فى بيتها، لتؤكد ارتياحها للحكم ضد أليكس فينز، وتعلق بقولها: «يستحق الحكم لأنه اغتال براءة مروة وهتك غلاف الأمان الذى كانت تمنحه لمصطفى، آه مروة كم كانت حنونة ولطيفة ومهذبة، أعتقد أن الحكم قد يريح روحها الآن». وبالعودة إلى المشهد فى «دريسدن»، يبدو إختفاء اليمين المتطرف طوال الأيام الماضية، رغم ما هو معلوم عن المدينة من احتضانها لأكثر تلك الأفكار تطرفا بين الكثيرين من شبابها المعروفين بال«سكين هيدز»، والذين يجاهرون بمواقفهم المعادية للأجانب، متخذين أنماط ملابس مختلفة، فرؤوسهم حليقة وملابسهم ضيقة وتميل إلى الأسود، ويضعون على وجوههم مساحيق ذات ألوان صارخة. وامتنع أعضاء هذا التيار، الذى ينتمى له قاتل مروة، عن تنظيم أى أنشطة موازية للوقفة الاحتجاجية التى نظمها عشرات المسلمين يوم النطق بالحكم أمام المحكمة، وهو ما أكده مصدر أمنى فى الشرطة الألمانية، ولكن ذلك لا ينفى وجودهم، بدليل حالة الاستنفار الأمنى العالية التى سيطرت على المدينة أثناء الجلسات، تحسبا لوقوع أى أعمال عنف غير متوقعة، والتى كانت تكلف المحكمة 200 ألف يورو فى الجلسة الواحدة. عبر عن تلك المخاوف بابلو آسنتى، الأرجنتينى الذى انتقل للسكن مصادفة فى العمارة التى كان يقطن بها «عكاز» و«الشربينى»، تحدث بأسى عن الواقعة، قائلا إنه علم بها من الزهور الكثيرة التى رآها تأتى يوميا أمام مدخل منزلها، موضحا أن «المناطق الشرقية من ألمانيا هى الأكثر عنصرية من الغربية»، وأضاف أن له صديقاً ألمانياً من أصل كورى يعانى تبعات ملامحه الآسيوية، فى مسقط رأسه دريسدن، رغم جنسيته الألمانية ولغته التى يتحدثها بطلاقة. الأمر نفسه عبر عنه «كاوا»، شاب ألمانى من أصول كردية سورية، قائلا إنه رغم تكامله مع المجتمع الألمانى فى العديد من الجوانب، فإنه يواجه مشكلات حقيقية عندما يتوجه لصالات الديسكو، التى يكثر بها هؤلاء ال (سكين هيدز)، إذ يمنعونه من الرقص لمجرد أن شعره أسود وملامحه شرقية، بل ويأمرونه بأن يترك المكان، وعلق الشاب السورى على ذلك بسخرية لاذعة: «حتى نوادى الديسكو باتت تحكمها السياسة». نترك البناية ونستقل تاكسيا للذهاب للقاء محامى مروة وشقيقها، تأخذنا التأملات: كم هى جميلة دريسدن، لقد جذبت دكتور علوى ومروة للإقامة والدراسة بها كما جذبت من قبلهما أعداداً كبيرة من المثقفين والمبدعين، من بينهم الرسام «جاسبار دافيد فريدريش»، و الموسيقار «فون فيبر». حكى لنا أحد أصدقاء علوى أنه وبعد نجاح «علوى» فى اجتياز رسالة الماجستير بنجاح فى إحدى جامعات الغرب الألمانى، قرر السفر للولايات المتحدة مع زوجته وطفله لاستكمال دراسته العليا هناك ونيل الدكتوراه، ولكنه قرر العودة لأنه لم يشعر بالأمان على زوجته مروة، لتكون عودتهما تلك المرة إلى «دريسدن» التى خانته ولم تمنحه الأمان الذى كان يبحث عنه. سألنا سائق التاكسى، وهو رجل فى الستين من عمره، عن رأيه فى الحكم الذى صدر ضد «أليكس فينز» فيجيب: «حكم عادل فى قضية وحشية، ولكن هل تطبقون ذات العقوبة لديكم فى مصر؟» فنجيبه أن عقوبة جرم أليكس فى مصر هى الإعدام شنقاً، فيرد: «ليت مصر تأخذ هذا المجرم وتعدمه على أرضها أو تضعه فى معسكر اعتقال». كانت وجهتنا للفندق الذى يقيم به فريق الدفاع، ومعهم طارق الشربينى شقيق مروة. نلتقى فى ساحة الفندق الداخلية ويدور الحديث فى ظل حالة من الشجن، يطول الحديث عن الحكم والغضب منه ولكن كان ما يعنينا هو مروة وحديث الشقيق عنها. يبتسم طارق ابتسامة غريبة، ويقول: «كانت حنونة رقيقة أذكر أننى جئت لزيارتها يوما هنا فى دريسدن، وخرجنا للتنزه على أقدامنا أنا وهى ومصطفى، مررنا بجوار مبنى المحكمة القريبة من بيتها فسألتها، عن طبيعة المبنى الذى يبدو كمبنى متحف أثرى، فأخبرتنى أنه مبنى محكمة دريسدن، لم أكن أتوقع أن تدخلها فتموت فيها، ولم أتخيل أن أدخلها بعدها مطالباً بالدفاع عن دمائها». يشيح بوجهه عنى ينظر فى اللاشىء، ثم يضيف: «أخبرتنى مروة بأنها كانت تعطى مصطفى أقراص فيتامين دى، لتعويض عظامه عن غياب الشمس هنا فى دريسدن، وقالت لى إنها تريده عندما يعودون لمصر أن يكون مستعداً لشمسها. أتعلمين أنا غاضب لأنها شقيقتى، ولو منحوا هذا المجرم ألف سنة فلن يشفى غليلى ما فعله بأختى، ثم كيف يتجاهلون معاقبة من أهملوا إنقاذ مروة وحماية حياتها، حتى الإسعاف تأخر فى الوصول». يقطع حديثنا وصول دكتور علوى ووالده. يجلس على وعد بألا نخرج فى جلستنا عن الحديث الطبيعى، لا يقول الكثير، ولكن عينياه تبوحان بالهموم التى بات يحملها منذ تلك الواقعة، لتشعر أنك أمام رجل فقد كل شىء.. حتى الحلم. كل ما يمكننا قوله إن علوى لم يعد يسكن فى المنزل وأنه يقيم الآن فى سكن الجامعة، دون أن يقرر حتى الآن ما إذا كان سيترك دريسدن أم سيكمل بها رسالة الدكتوراه. نتركهم ونتذكر مروة التى جاءت حالمة بمستقبل مختلف، جاءت لدريسدن، كما كان يجىء طلاب العلم فى أوروبا لمصر فى القرون الأولى للتعلم على يد علماء مكتبة الإسكندرية، وكما كان يجىء طلاب العلم الأوروبيون فى عصور الجهالة الأوروبية إلى القاهرة وبغداد والأندلس للتعلم والفهم ونقل الحضارة العربية لبلادهم. ولكنها رحلت لتترك وراءها ذكرى فى دريسدن لن تنسى لأنها قتلت بلا ذنب، وهى من قال عنها الجميع: «المهذبة، اللطيفة، المتسامحة، والأهم الراغبة فى الاندماج فى المجتمع الألمانى». رحلت لتؤكد وجود فجوة فى الفهم بيننا وبينهم.. رحم الله مروة الشربينى.