لم تكن لدى الرغبة فى رحلتى الأخيرة للندن أن أزور متحف الشمع البريطانى (مدام تيسو) لولا إصرار البعض من الأصدقاء القادمين إلى مدينة الضباب للمرة الأولى وحرصى على مرافقتهم من باب المجاملة والاطلاّع أيضا على ما أضيف إليه من تحف جديدة لاتسمن هزال عدل ولاتغن من جوع حق.. فلم يكن يثير اهتمامى من المتحف إلا التجول عبر العصور والتعرف إلى شخصيات ذات بصمة تاريخية مميزة والتمتع بروعة الإبداع ودقته فى صناعة الوجوه.. وما عدا ذلك فلا يهم أن أرى (الرئيس فلان أو علاّن) من كان حيّا أو ميتا.. سيان فى ذلك.. فلم تأت (مدام تيسو) بجديد.. فتلك الوجوه فى الأصل مصنعّة من شمع بارد لاتؤثر عليه حرارة غضب شعبىّ أو صيحات سياط ظالمة على جسد الآدمية.. لم تكن هى الزيارة الأولى.. بل هى المرة الأولى التى أتنبه بها إلى ذلك الجزء الكالح المظلم من التاريخ حيث اجتمع عبيد الديكتاتورية فى إحدى زوايا المتحف الجانبية التى لاتكاد تلفت نظر زائر لترى أشباح جبروتهم المتطرف تقف بلا حياة إلا من أسمال ماض لم يبق منه غير ذكرى بلا حياء.. وما أدهشنى هو عدم وجود (بوش) مع تلك المجموعة فى ذلك المكان الملتحف بالعفن والعطن ووجوده خطأً بين اثنين من زعماء الحرية (مارتن لوثر كنج) و(كنيدى)؟؟ أما علامة الاستفهام الكبرى فهو (محمد الفايد) الملياردير المصرى الأصل وصاحب إمبراطورية (هارودز).. المستميت على المواطنة البريطانية والشهرة التى أودت بفلذته.. وعشق الذات الذى جاء به تمثالا بين أسماء كانت لها علامات على سفر التاريخ سلبا أو إيجابا.. ذلك العشق الذى سيجعل منه بعد دنو الأجل مومياء على برج (هارودز) رغم علمه وهو المسلم أن إكرام الميت دفنه وليس تحنيطه ورغم علمه وهو الخبير بتاريخ الفراعنة أن الخلود والتخليد ليس بالجسد المحنط والتمثال الشمعى.. بل بالأعمال ومدى تأثيرها الإنسانى.. فلو تبرع بالمليونى دولار قيمة التحنيط لمستحقى علاج ومأوى لكان خُلّد فى قلوب هؤلاء ودعواتهم التى تقربه من جنة الخلود.. فالخالدون حقيقة لم تخلدهم ملياراتهم.. بل عطاء مؤثر انطلق بهم إلى قمم الخلود.. فمنهم أبطال بذلوا دماءهم من أجل كرامة وطن.. ومنهم علماء ومفكرون وأدباء ومنهم أثرياء جادوا بما يملكون لسدّ أبواب عسرات وحاجة.. فماذا لو تبرع الفايد بجزء من تلك الثروة لبناء مدينة لشباب لم يجد أحدهم فسحة مكان يكمل به نصف دينه؟ أو مصانع لآخرين تائهين على دروب البطالة؟ أو مستشفى أو أى مؤسسات خير كما يفعل أثرياء بعض الدول العربية بمستحقات زكاتهم؟.. هذا هو الولاء للجذور.. ذلك هو الخلود الحقيقى أما التحنيط وتماثيل الشمع فقد أصبنا منها بالتخمة فالمحنّطون عندنا (حدّث ولاحرج) حتى بدأنا نشكّ أنهم يتحركون (بالريموت).. هذا إن لم نكن نحن أيضًا محنّطين وتماثيل شمع دون أن ندرى حيث لافرق بيننا وبين المومياوات إلا فى اجترار الطعام وقضاء الحاجة. إليك جمعتك من نثار اللحظات والأيام والأعوام.. نضدتك قلادة على جيد الزمن.. حملتك أملاً على كفّى الأمان.. تهدهدك الأحلام.. وتغنى لك الأمنيات.. خبأتك بين جفنىّ المسهّدين تعمدك دموع الصمت.. خبأتك فى شغاف الروح.. خوفا عليك من رفرفات الضلوع تقضّ مضجع غفوتك.. خبأتك فى عمق الأعماق خوفا عليك من لهيب الشوق.. ومن وهج الأنفاس.. يالمقتحم بوابة الصبر.. يالمذاب فى منمنمات كينونتى.. يا.. الأنت المتوحدة بالأنا فى انطلاقة مهرجان رذاذ خريفى على جبين الحب.. كرنفال جمال فطرىّ.. احتفالية نور تتهادى على ثغر وصال.. صدى أنشودة مطر مسائىّ.. انتفاضة موج نهرىّ.. ومخاض قصيدة.. يا.. ال أنت والأنا. الروحين الهائمين فى ليل غربة. القاربين التائهين بين مدّ وجزر.. إعصار جنون وموجات سكون.. شاطئ حقيقة وبحر خيال.. ومرسى مبنىّ على رصيف محال.