لا يمكن أن نصف ما يدور فى مصر من حوار حول منصب الرئيس إلا بكلمة واحدة، وهى عنوان هذا المقال: «استباحة»، فالرئيس لكل من له عينان موجود، وكان ظهوره فى مؤتمر الحزب الوطنى، سواء فى كلمته المكتوبة، أو فى دعابته للحضور، دليلاً على أن الرجل يتمتع بصحة جيدة وكفاءة ذهنية عالية، على الأقل كافية تماماً لإتمام مدة رئاسته الشرعية، التى تنتهى بعد عامين، ومن هذا المنطلق يكون الحديث عن بديل للرئيس الآن استباحة. كان واضحاً أيضاً أن الرجل يؤدى مهامه الرئاسية على أكمل وجه، من حيث الزيارات الدولية واللقاءات اليومية فى مقار الرئاسة فى القاهرة، بجدول لا يستطيع تحمله الكثيرون ممن هم فى عمر أقل منه بكثير، ومن هنا يكون التشكيك فى قدرات الرجل أيضاً استباحة. موقع الرئيس لم يخل بعد، الرجل موجود ملء السمع والبصر، وكذلك من حوله ممن أتيحت لى فرصة لقائهم يشهدون بأن قدرات الرجل ليست على الإطلاق أقل مما كانت عليه، ومن تحدثت إليهم لا يجاملون ولا يكذبون، والكثيرون منهم يرون أن الحديث الدائر فى مصر هذه الأيام، لا يمكن وصفه سوى بعدم اللياقة، أو كما أسميته فى العنوان «استباحة». لا غرو أن يتحاور المصريون حول مستقبل بلدهم، بعد نهاية ولاية الرئيس مبارك عام 2001، ومن سيتنافس على مقعد الرئاسة، ولمن سيبتسم الحظ لكى يكون رئيس أكبر دولة عربية، لكن الأسلوب الذى سيطر على حوار المصريين حول هذا الأمر تجاوز هذه النقطة وتخطاها وانتقل بها من مساحة التحليل السياسى، إلى مساحات الاستباحة. فى الأسبوع الفائت استضافنى الأستاذ جمال عنايت فى برنامجه المرموق «على الهوا»، ورغم الاسم كان البرنامج مسجلاً، وليس هذا يعيب الأستاذ جمال ولكنه كان تحايلاً على عامل الوقت الذى حكم زيارتى للقاهرة، طرحت فى برنامجه تفصيلاً لفكرة الاستباحة هذه، قلت: «فى التحليل السياسى المحترم لسيناريوهات المستقبل فى أى بلد بما فى ذلك مصر، تعلمنا أن نناقش السيناريوهات تدريجياً من سيناريو الحالة الأسوأ، أو سيناريو الخراب العام أو الفوضى، إلى سيناريو نتصور فيه أن الأمور ستسير كما كانت تسير، التغيير فقط يحدث على مستوى اللاعبين أو الأشخاص، أو سيناريو التغيير الطفيف على ما هو قائم، أو تغيير أكبر ومخالف لما هو قائم». ولو افترضنا أن واحداً من المراكز البحثية المرموقة قرر أن يقيم ورشة عمل حول السيناريوهات الأربعة المحتملة لمستقبل بلد كمصر مثلاً، ولمدة نصف يوم أو أربع ساعات، لاستغرق سيناريو الخراب والفوضى هذا ما يقرب من عشر دقائق أو ربع ساعة من ورشة العمل هذه، لأنه السيناريو الأبعد احتمالاً، فبلد كمصر مثلاً بكل مؤسساتها وجيشها لن تنهار تماماً بخلو مقعد الرئاسة لأى ظرف من الظروف، ومن هنا يكون الحديث عن مجلس أمناء يكتب دستوراً جديداً إلى آخر معطيات هذا السيناريو، حديثاً يجب أن يوضع فى حجمه الطبيعى ضمن السيناريوهات الأربعة أو الخمسة المحتملة، لكى نعطى وقتاً للحديث عن السيناريوهات الأكثر معقولية، مثل أن نتحدث عن الوضع الدستورى المعروف، والستين يوماً التى تذهب فيها سلطات الرئاسة إلى رئيس مجلس الشعب، والانتخابات ونوعية المرشحين...إلخ. هنا سيتبارى الباحثون فى طرح أسماء محتملة قد تحظى بأعلى درجة من الأصوات الانتخابية...إلخ. وقد يطرح البعض فكرة الجنرال الغائب على غرار فكرة الشيعة عن الإمام الغائب، فقد يطرح البعض سيناريو لا تستطيع فيه المؤسسات المدنية حسم الموقف، فيتدخل الجيش بقيادة جنرال شاب لا نعرفه، ربما بسن الرئيس مبارك عندما تولى الرئاسة أول مرة، ليست هذه هى الفكرة، ولكن الفكرة أن كل السيناريوهات تطرح للنقاش مع الاحتفاظ بالنسبة والتناسب فى معقولية السيناريو المطروح. بكل أسف غرق المصريون فى الحوار حول السيناريو الأقل معقولية والأبعد حدوثاً، وهو سيناريو انهيار مؤسسات الدولة الدستورية، الذى يأتى معه مجلس الوصاية أو مجلس الأمناء كما حدث مع الأمير أحمد فؤاد بعد ثورة يوليو 1952، سيناريو الثورة هذا هو الأقل معقولية والأبعد احتمالاً من حيث الحدوث، ترى لماذا أغرق المصريون فى هذا السيناريو السخيف؟، إن لم يكن الأمر كما ذكرت فى بداية المقال مجرد استباحة. آخر ألوان الاستباحة، جاء فى سيناريو المخرج الآمن، الذى خان التعبير فيه الصديق عماد الدين أديب، وأنا أعرف عماد كشخصى، ولا أظنه أبداً قصد ما فهم الناس من قوله، فالذين يعرفون عماد الدين أديب لم يعهدوا فيه سوء القصد، وقد فسر الأستاذ عماد ما قصد، ولكن ما قصده شىء، وما فهمه الناس شىء آخر، لقد استخدمت عبارة أديب فى جو الاستباحة هذا بعيداً عن مقاصدها، فبدت وكأنها ضمن حملة الاستباحة، ظنى أنه لا يليق ببلد كمصر، مكاناً ومكانة، أن يدور به حوار منفلت إلى حد الاستباحة، فهل آن الأوان أن نقتدى بالمتطرفين السابقين، ونمارس على قولنا نوعاً من المراجعات، فليس عيباً أن يقوم القوميون بمراجعات لمقولاتهم على غرار ما قام به الإسلاميون، وإلا كان الأمر تمادياً فى الاستباحة.