اسمح لى عزيزى القارئ أن أشركك خواطرى عن بعض الهموم المشتركة بيننا. ستكون خواطرى عن «الحزن الوطنى» - الحزن بالنون لا بالباء - تاركاً أحزانى الشخصية – فقد الأصدقاء والأحباب - بعيدا عنك. الدين لله والوطن للجميع، شعار نشتاق إليه، خاصة بعد أن صار «الدين للجميع والوطن له الله». ظهرت العذراء فى أماكن كثيرة فهرع لرؤيتها المسلمون والأقباط فى مظاهرة رائعة للوحدة الوطنية المُمَزَّقة بالكامل خارج مناطق الظهور. ظهر واعظ مسلم مشهور جداً ليقول: «وإيه يعنى ما النبى محمد كمان بيظهر فى المنام». كان ذلك استدراكا على استنكاره السابق لمسألة ظهور العذراء. منطق الشيخ «ما حدش أحسن من حد».. والحقيقة ياريت ونتمنى من أعماق قلوبنا ونبتهل لكل أولياء الله من كل الأديان أن يتبنى الوطن المصرى شعار «ما حدش أحسن من حد».. فى كل الأمور السياسية والاجتماعية والثقافية. «ما حدش أحسن من حد إلا بالعمل» هو جوهر مفهوم «المواطنة» الذى ينص عليه الدستور فى مادته الأولى ثم يعود فيشطبه فى مادته الثانية حين يجعل للدولة – دولة المواطنين جميعا – دينا، حتى لو كان دين الأغلبية. الأغلبية مفهوم سياسى، ويجب أن يظل مفهوما سياسيا. إذا تم سحب مفهوم «الأغلبية» على الدين أو العرق أو الجنس فالجميع فى خطر. وسواء كان ظهور العذراء حقيقة (بحسب منطق الإيمان) أو كان خيالا (فى تحليل المفكرين) فلا ينبغى للمفكر أن يسخر من إيمان المؤمن، ولا ينبغى للمؤمن أن يطالب بذبح المفكر. العذراء – بعبارة الأنبا شنودة – لا تظهر إلا للمؤمن. بعبارة أخرى، ظهورها قرين العلاقة التى ينشئها المؤمن باختياره مع مقدساته. المقدس علاقة إيمانية وليس واقعاً خارجياً موضوعياً. لكن هذا كلام عويص يدخل فى مجال التحليل الفكرى. فى سياق إجراءات اختيار المرشد العام الجديد للإخوان المسلمين، اختلف أهل الحل والعقد منهم فى تفسير اللائحة، وطالبوا بتشكيل لجنة من الخبراء لتحديد الإجراءات وحسم الاختلاف. أهل الحل والعقد أنفسهم لا يختلفون فى تفسير القرآن ويقولون بأعلى صوت «لا اجتهاد فيما فيه نص». أما آن لهم أن يدركوا أن الاختلاف فى الفهم جائز، بل مشروع فى نص إلهى هو أعقد كثيراً فى بنيته وأسلوبه وتاريخ تفسيره وتعدد مناهج مقاربته من لائحتهم المتواضعة؟ هذا عن القرآن الكريم، فما بالنا بالأحاديث ومشكلة توثيقها التى هى أعقد من ناحيتى الرواية (السند) والدراية (المتن) معا؟! سيقولون قام أسلافنا بذلك وانتهى الأمر، فيقال لهم ألم يقم أسلافكم بصياغة اللائحة وتطبيقها منذ ثلاثة أرباع قرن، وها أنتم تختلفون عليها؟ هذه مجرد دعوة للتأمل والمراجعة. لا أريد الخوض فى معنى كلمة «نص» فى العبارة السابقة – فعلت ذلك بالتفصيل فى كتاباتى المنشورة والمتاحة للجميع – التى يسحبها الساحبون على القرآن كله وعلى ما ورد فى كتب الصحاح جميعها. ويا أيها الحكومة، ويا أيها السادة أعضاء لجنة السياسات، كفوا عن دفن الرأس فى الرمال. هذه التى تصرون على تسميتها «المحظورة» هى الأكثر حضورا والأكثر تأثيرا من أغلبيتكم المُصنَّعة بالتزوير والبلطجة فى الانتخابات. هذه «المحظورة» تحتل 88 مقعدا فى البرلمان، ولها مكاتبها وفروعها وممثلوها والناطقون باسمها فى الإعلام، ولها نشراتها المقروءة والمسموعة والمرئية. لها مساجدها ومنتدياتها وتقيم احتفالاتها الدورية وتبسط الموائد فى رمضان الخير، وتدعو إليها الكثير من الضيوف من كل أطياف الواقع السياسى. أقول هذا كله لأقول لكم إن إصراركم على وصف الجماعة ب«المحظورة»، وهذا مستوى حضورها وظهورها فى الواقع المصرى، هو نوع من التخريف السياسى والإعلامى. فرحت كثيرا – مثل كل أبناء الشعب المصرى - بإمكانية أن ينافس الدكتور «محمد البرادعى» أو السيد «عمرو موسى» مرشح الحزب الوطنى على منصب رئيس الجمهورية فى انتخابات عام 2011. طبعاً لا يختلف أحد فى أن هذه علامة مهمة لتنشيط عملية الحراك السياسى التى تتعثر لأسباب كثيرة. الناشطون السياسيون من الشباب والشيوخ والمدونون وشباب الفيس بوك وجدوا فى أحاديث الرجلين فرصة لتعميق الانتماء الوطنى وتفعيله. ماذا نفعل لمساندة اقتراحات البرادعى للإصلاح الدستورى لتمكين أى مواطن مصرى من حق الترشح للمنصب الرفيع؟ «التوكيلات» هى الحل! سؤالى هو: ما الفارق بين «التوكيل» و«البيعة» كإجراءات للدفع بعملية الحراك السياسى؟ أعتقد أنهما آليتان تنتميان إلى ما قبل عصر الدولة الحديثة. قام المصريون بجمع التوقيعات فى العقد الثانى من القرن العشرين لتوكيل «وفد» – وليس لتوكيل فرد بعينه – لتمثيلهم فى موضوع بعينه هو موضوع الجلاء والاستقلال. أما «البيعة» – وهو مصطلح كلاسيكى - مازال الإخوان يوظفونه كما توظفه بعض قطاعات من المنتفعين، كما حدث أخيرا فى مبايعة اتحاد عمال مصر للرئيس مبارك. الفارق بين العقد الثانى من القرن العشرين والعقد الثانى من القرن الواحد العشرين (الذى بدأ منذ أيام) فارق شاسع. ما يحتاجه الدكتور البرادعى أو السيد عمرو موسى لا تكفى فيه التوكيلات، بل الانخراط فى صياغة مشروع وطنى لا يعتمد على فرد بعينه. التوكيل لا يزيد فى نظرى على «التوقيع» على بيان احتجاج أو اعتراض. عزيزى القارئ، لا تسألنى عن المشروع، فأنا أيضا مجرد فرد قد أجد نفسى مضطرا فى النهاية لعمل «توكيل» إبراء للذمة. أسعدنى أن أقرأ فى «المصرى اليوم» أن ثمة لجنة تم تشكيلها لصياغة التغييرات المطلوبة فى الدستور لتمكين المواطن – أى مواطن – من حق الترشح للمنصب الكبير. أضم صوتى وتوقيعى للموقعين على تشكيل اللجنة. وأهلا يا مصر التى تستعيد عافيتها وترنو إلى التواصل مع تراثها. الأعجب هو فزع النظام بكامل جيوشه السياسية والإعلامية والقانونية من «التوكيلات». توكيلات يوك، هكذا صدر الفرمان الحكومى لمكاتب الشهر العقارى. هذا بالإضافة إلى أوركسترا الشرشحة (حسب الإعلامى النابه الأستاذ حمدى قنديل) ضد الرجلين المحترمين المهذبين البرادعى – الذى كان لى شرف اللقاء به منذ عدة سنوات فى هولندا – وعمرو موسى المحترم جدا والذى لم يسعدنى الزمان بلقائه. وبعد ذلك كله نستغرب من وزير بيطلع دين الناس فعلا وقولا من تحت قبة البرلمان، ونستغرب من وصلات الردح والشتائم والأحذية الطائرة فى المجلس الذى لا يستطيع السيطرة على بذاءات أعضائه، بالرغم من أنه «سيد قراره». فى العام المنصرم تمت بنجاح كامل مذبحة – ومحرقة – الخنازير، وفى العام الذى قبله تمت مذبحة الطيور. استوطنت أنفلونزا الطيور، وكل حقن الأمصال المتاحة ضد أنفلونزا الخنازير لا تكفى. لمن ستكون المذبحة المقبلة يا ترى؟ هل كان موضوع العبارة عام 2008 وتهريب المسؤول عن هذه «المغرقة» جزءا من سيناريو المذبحة المقبلة؟ لطفك يا رب! هل الجدار الحديدى – اسم الدلع هو «الإنشاءات الهندسية» نقلا عن الأستاذ محمود سعد فى حوار تليفزيونى خارج البيت بيتك – جزء من هذا السيناريو؟ حكم بالإعدام صدر ضد أحد أعضاء مجلس الشعب لضلوعه فى قتل ممثلة مغمورة، وخلاف بين مسؤول كبير سابق ورجل أعمال حالى وبين زوجته (بالعرفى).. أمر عادى، لكن ما استوقفنى هو النزاع حول 15، أو 25 لا أذكر، فيلا فى الساحل الشمالى. ياقوة الله! بكام؟ ولمين؟ وحول مشغولات ذهبية تقدر – أيضا – بالملايين. يا قوة الله! بالملايين؟ خلى بالك، الناس بتقرا هذه الأخبار فتمتلئ القلوب بالحقد والعياذ بالله، والحقد – وأستغفر الله – هو جرثومة العنف الذى أصبح سمة الشارع المصرى – دون أن نهتم - منذ زمن بعيد. العنف هو المقدمة التى تفضى إلى الإرهاب بعد أن تصاغ المشكلات المجتمعية صياغة دينية فى المساجد والفضائيات. متى نرحم «القضاء» من حسم النزاعات الفكرية التى لا تنتهى – ولن تنتهى – فى أى مجتمع يتمتع بحد أدنى من الحيوية؟ متى نرحم «القاضى» من ورطة تحديد «الحق والباطل» فى مجال لا يدخل تحت حكم «القانون»، أى قانون إلا القوانين الديكتاتورية، قوانين الإذعان والطاعة تحت أى مسمى؟ أيها العاجزون عن النقاش بالحجة والبرهان لا تتستروا مرة خلف «حقوق الله» ومرة خلف «حماية الناس» من الفكر فتهدموا علينا وعليكم حصن «القضاء» الذى هو ملاذنا جميعا لاسترداد حقوقنا الإنسانية الاجتماعية إذا اغتصبت. أقول هذا بمناسبة توالى الأحكام بتغريم المثقفين المصريين مبالغ طائلة تعويضا لادعاء البعض بأنهم أهانوهم حين وصفوهم بالتطرف. أول الضحايا كان شاعر مصر العظيم «أحمد عبدالمعطى حجازى وآخرهم الدكتور جابر عصفور» وهو من هو. كان شعار عصر «النهضة»، الذى يجب أن نستعيده من أجل النهوض: (ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة بيننا نبنيه بالحرية والفكر والمصنع). الحرية أولاً – بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية والإبداعية والأكاديمية... إلخ – هى الأساس لنهوض الفكر وازدهار المعرفة ورُقى التعليم والمشاركة فى إنتاج العلم لا مجرد الاكتفاء باستيراد التكنولوجيا. هذا هو الأساس الثانى لبناء المصانع – المصنع مجرد رمز للدخول فى العصر الحديث – وتحقيق الرفاهية. اسمح لى عزيزى القارئ أن أختم هذه الخواطر باستشهاد من الشيخ محمد عبده عن تعريف «الوطن». كان هذا التعريف ضمن مقالة نشرها الشيخ الجليل فى جريدة «الأهرام» بعنوان: «الحياة السياسية والوطن والوطنية» بتاريخ 28 نوفمبر 1881. فى هذا المقال يخوض «عبده» فى تحديد معنى «الوطن» و«المواطنة»، فيربط معنى الوطن بأمرين: الحماية والأمان من جهة، والحرية من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى أن تحديده معنى «المواطنة» لا يتضمن إدراج «الدين» فيه: الوطن فى اللغة محل الإنسان مطلقا، فهو السكن بمعنى: استوطن القوم هذه الأرض وتوطنوها أى اتخذوها سكنا. وهو عند أهل السياسة مكانك الذى تنسب إليه ويُحفظ حقك فيه، ويُعلم حقه عليك، وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك. ومن أقوالهم فيه: لا وطن إلا مع الحرية...... بل هما سيّان؛ فإن الحرية هى حق القيام بالواجب المعلوم، فإن لم توجد فلا وطن لعدم الحقوق والواجبات السياسية، وإن وجدت فلا بد معها من الواجب والحق، وهما شعارا الأوطان التى تُفتدى بالأموال والأبدان، وتُقدَّم على الأهل والخلان، ويبلغ حبها فى النفوس الزكية مقام الوجد والهيمان. أما السكن الذى لا حق فيه للساكن، ولا هو آمن فيه على المال والروح، فغاية القول فى تعريفه أنه مأوى العاجز، ومستقر من لا يجد إلى غيره سبيلا، فإن عَظُم فلا يسر، وإن صَغُر فلا يساء. قال لابروير (الحكيم الفرنسى): «ما الفائدة من أن يكون وطنى عظيما كبيرا إن كنت فيه حزينا حقيرا أعيش فى الذل والشقاء خائفا أسيرا؟!». على أن النسبة للوطن تصل بينه وبين الساكن فيه صلة منوط بها أهداب الشرف الذاتى، فهو يغار عليه، يذود عنه كما يذود عن والده الذى ينتمى إليه وإن كان سيئ الخلق شديدا عليه، ولذلك قيل فى مثل هذا المقام إن ياء النسبة فى قولنا مصرى وإنجليزى وفرنسى هى من موجبات غيرة المصرى على مصر والفرنسى على فرنسا والإنجليزى على إنجلترا، فأنكر ذلك بعض الناس، وكان فى الأمر لا شك سوء فهم أو سوء إفهام. وجملة القول إن فى الوطن من موجبات الحب والحرص والغيرة ثلاثة تشبه أن تكون حدودا: الأول أنه السكن الذى فيه الغذاء والوقاء والأهل والولد، والثانى أنه مكان الحقوق والواجبات التى هى مدار الحياة السياسية، وهما حسيان ظاهران، والثالث أنه موضع النسبة التى يعلو بها الإنسان ويعز أو يسفل. رحم الله الشيخ وكل عام وأنتم بخير بمناسبة العام الجديد (الهجرى والميلادى) وبمناسبة عيد الميلاد المجيد.