نشرت الصحافة عن خطة للهيئات الاقتصادية العامة لإصدار سندات فى السوق المصرية لتمويل احتياجاتها لتمويل مشاريع البنية الأساسية، ومن بين هذه الهيئات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة والهيئة العامة للسكك الحديدية والهيئة العامة للبترول والشركة القابضة لكهرباء مصر. وقد تضمنت نفس الأخبار الإشارة إلى أن وزارة المالية ستكتفى بضمان تلك الهيئات الاقتصادية، الأمر الذى يعزز جدارتها الائتمانية فى الأسواق، وزيادة الإقبال من السوقين الأولية والثانوية على التعامل بها، ويبدو أن واحدة من المؤسسات المالية الخاصة - هيرمس - تتولى بالفعل عملية طرح بعض هذه السندات. وليس هناك من شك فى أن سندات الحكومة، كما السندات المكفولة بضمانها، تمثل عنصراً رئيسياً فى تطوير الأسواق المالية، ولا تقتصر هذه الأهمية على زيادة إمكانيات التمويل فى الاقتصاد، بل إنها تعتبر أيضاً عنصراً ضرورياً لقيام البنك المركزى بدوره فى ضبط السياسة النقدية من خلال عمليات السوق المفتوحة، فكلما تعددت الأدوات المالية زادت فاعلية السياسة النقدية، ولعله لهذه الأسباب تم تعديل اللائحة التنفيذية لقانون أسواق المال بهدف تيسير إجراءات إصدار السندات. وينبغى، مع ذلك، التأكيد على ضرورة التفرقة بين السندات التى تصدر من الشركات الخاصة والهيئات العامة غير الحكومية من ناحية، وبين سندات الحكومة الصادرة عن الخزانة أو بضمان وزارة المالية من ناحية أخرى. ففى الحالة الأولى تكون «السوق» قادرة على ضبط أسعارها وفقاً للمخاطر التى تكتنف المدين، وتتحدد أسعارها وفقاً لذلك، ولذلك فإن التغيرات التى تطرأ على أسعار هذه السندات تكون تعبيراً عن رؤية السوق لمخاطر هذه السندات وعائداتها. أما السندات الصادرة عن الخزانة أو المكفولة بضمان وزارة المالية فإنها تعكس الرؤية عن المخاطر السيادية للدولة ولا تتأثر باعتبارات «السوق» لمخاطر الشركة أو الهيئة المصدرة للسند، فضمان وزارة المالية يحجب مخاطر الشركة أو الهيئة المصدرة. وكذلك ينبغى أن يكون واضحاً أنه لا يوجد أى فارق فى هذه الناحية بين «سندات الخزانة» الصادرة عن وزارة المالية والسندات الصادرة عن الهيئات الأخرى المكفولة بضمان وزارة المالية، ففى الحالتين نحن إزاء مسؤولية الدولة عن الوفاء، سواء كأصيل أو كضامن. ولذلك فإن «السوق» تنجح فى تقديم مؤشرات مسبقة عن مخاطر الإسراف فى اقتراض الهيئات غير المضمونة من وزارة المالية وذلك بتدهور أسعارها مما يضع حداً على قدرتها على زيادة الاستدانة. أما السندات المضمونة من وزارة المالية فإنه لا خوف من عدم السداد، وبالتالى لا تتأثر أسعارها فى السوق حتى لو جاوزت الشركة أو الهيئة المقترضة حدود الاقتراض الآمن. هنا تفشل السوق فى تقديم أى مؤشرات مسبقة عن مخاطر عدم الوفاء. ولكل ذلك فإن ما قد يثير بعض القلق فى هذه الأخبار المنشورة هو ضمانة وزارة المالية للسندات التى تصدرها للهيئات العامة، المصدر للسندات. فهذا الضمان يتضمن فرض التزامات مالية على الدولة إذا عانت إحدى هذه الهيئات من مشاكل فى الوفاء بديونها فى المواعيد المحددة، ولذلك يقتضى الأمر - فى هذه الحالة - الحصول على موافقة مجلس الشعب طبقاً لنص المادة 121 من الدستور التى تنص على أنه «لا يجوز للسلطة التنفيذية عقد قروض أو الارتباط بمشروع يترتب عليه إنفاق مبالغ من خزانة الدولة لفترة مقبلة إلا بموافقة مجلس الشعب». فالأعباء على خزانة الدولة لا تختلف، سواء اقترضت الدولة من السوق أو قامت بتقديم ضمانها لسندات صادرة من هيئات أخرى. ورغم ما يسود من تقاليد المحاسبة من قيد «الضمانات» خارج الميزانية off balance sheet فقد أثبتت الأزمة العالمية الأخيرة كيف أن هذه الالتزامات خارج الميزانية هى ما سبب الاضطراب الكبير فى الأوضاع المالية لكبريات الشركات. وتترجم المادة 121 من الدستور مبدأً مستقراً فى معظم الدول باعتباره مرادفاً لمفهوم الديمقراطية، فالديمقراطية السياسية بدأت لتأكيد مفهوم التمثيل الشعبى، خاصة عندما يتعلق الأمر بفرض أعباء مالية على المواطنين. ومن هنا شعار «لا ضرائب بلا تمثيل شعبى» No Taxation Without Representation، الذى كان بداية المطالبة بالديمقراطية فى إنجلترا، ولذلك استقر الأمر على أنه «لا ضرائب إلا بقانون»، ونظراً لأن قروض الدولة لا تعدو أن تكون فى حقيقتها «ضرائب مؤجلة»، لأنها وإن مكنت الدولة من الحصول على موارد مالية «الآن»، فإنها تزيد الأعباء العامة على المواطنين فى المستقبل عند سداد هذه القروض، وحيث تستقطع من الضرائب التى تفرض على المواطنين آنذاك، فالاقتراض هو زيادة فى الإنفاق على الموارد المتاحة، ولذا لابد من موافقة ممثلى الشعب عليه. ويزداد الإحساس بخطورة القروض العامة على الخزانة فى مصر بالنظر إلى التاريخ المرير لتجربتنا السابقة فى هذا المجال، وذكرياتنا الأليمة عن هذه القروض، وما زالت الذاكرة تسترجع بين الحين والآخر تلك الذكريات المريرة. لقد بدأ والى مصر سعيد باشا الاقتراض من المؤسسات الأجنبية فى الخمسينيات من القرن التاسع عشر ثم توسع فيها الخديو إسماعيل حتى ناءت الخزانة بعبء فوائد هذه القروض، وفرضت الحكومات الأجنبية تدخلها فى السياسة الداخلية للبلاد بتعيين مستشارين أجنبيين فى الحكومة (أحدهما فرنسى والآخر بريطانى)، وانتهى الأمر بالاحتلال البريطانى لمصر فى 1882، الذى دام لسبعين سنة . وفى بداية الأربعينيات من القرن الماضى سددت مصر كامل ديونها الخارجية وأصدرت دينًا محليًا للحلول محل الدين الخارجى، وكانت مصر قد حققت مدخرات خارجية أثناء الحرب العالمية الثانية نتيجة لتحملها أعباء الجيش البريطانى الموجود على أراضيها، مما وفر لها أرصدة بلغت حوالى 450 مليون جنيه إسترلينى. وبعد منتصف الخمسينيات عادت مصر من جديد إلى الاقتراض الخارجى وبدأت الاستفادة من برنامج المعونة الأمريكية فى 1958، وما ترتب عليه من مديونية بالجنيه المصرى، وبعدها بدأ الاقتراض من الكتلة الشرقية لاعتبارات التسليح والتصنيع، وبلغت ديون مصر الخارجية عند وفاة الرئيس الراحل عبدالناصر فى عام 1970 حوالى أربعة بلايين دولار، لتصل عند وفاة الرئيس الراحل السادات فى عام 1981 إلى ما بين 18 و20 بليون دولار، ثم ارتفعت من جديد إلى أكثر من ستين بليون دولار فى عام 1990، وحينئذ بدأت مصر فى التأخير فى السداد لعدد من الدائنين فى الخارج وأصبح المركز المالى لمصر حرجًا، وفى هذه اللحظة قامت حرب الخليج فى أغسطس 1990 باحتلال العراق للكويت، ومن بعدها بدأ التدخل الدولى لتحرير الكويت، وشاركت مصر فى هذه العملية العسكرية، وكانت النتيجة مكافأة مصر على هذه الجهود، فتم إلغاء الديون العربية بالكامل (حوالى 7 بلايين دولار) وكذا الديون العسكرية الأمريكية (حوالى 7 بلايين دولار أيضًا) فضلاً عن تخفيض نصف الديون العامة المستحقة للدول والمؤسسات المالية الأخرى من خلال نادى باريس، وبذلك انخفض الدين العام الخارجى فى ذلك الوقت إلى حوالى 23 بليون دولار، وتبلغ الديون الخارجية حاليًا ما يقرب من 34 بليون دولار. وهكذا يتضح أن لمصر تاريخًا بائسًا مع الديون العامة وخاصة الخارجية. ومن هنا فإن موافقة مجلس الشعب على اقتراض السلطة التنفيذية أمر لازم ليس فقط باعتباره ضرورة دستورية بل أيضًا لتوفير الضمانات لعدم المبالغة فى الاقتراض فى ضوء التجارب السيئة الطويلة السابقة. وللأسف فإنه يبدو أن الحكومة المصرية لا تراعى بدقة احترام نصوص الدستور الحالى بالالتزام بعرض قروض الدولة على مجلس الشعب، كذلك فإن إصدار سندات جديدة من مختلف الهيئات الاقتصادية بضمان وزارة المالية لا يعدو أن يكون تحميلاً للخزانة بأعباء مالية ومن ثم يجب عرضه على مجلس الشعب للموافقة عليه طبقًا للمادة 121 من الدستور المشار إليه. والسؤال المطروح هو: هل إصدار هذه السندات الجديدة لهذه الهيئات العامة سيكون دائماً بضمان وزارة المالية؟ وهل ستحصل الحكومة فى هذه الحالة على موافقة مسبقة من مجلس الشعب؟ كلها أسئلة تستحق الإجابة الواضحة والقاطعة، فإن لنا تاريخاً غير مشرف فى الاقتراض، وتجاربنا السابقة لا تدعو إلى الاطمئنان، والله أعلم. www.hazembeblawi.com