عيد مقبل يتبعه عيد وأعياد.. والشوق محبوس فى زنزانة الغربة المحاطة بالمسافات الهاربة.. يظل سجين العزلة ينظر بانكسار من خلال الجدران الزجاجية المعتمة عن محض سراب.. يظل «مسجّى» فى تابوت الأحلام المحترقة يتمرغ فى رمادها الساكن عجزاً.. عيد آخر يتبعه عيد وأعياد.. وأنا أتناثر على أرصفة الذكريات كفتافيت قمح مرّ تنثره أكفّ السنين العجاف.. تتقاذفنى المحطات والطرقات.. والأعوام والفصول.. من مدن تكتظ بالتناقضات إلى مدن مهجورة إلا من أشباح يعبث بها الوهم وتخونها الخرافات.. من مدن نور إلى مدن ظلام.. من.. وإلى.. وإلى.. ومن.. تغدر بى الأحلام.. ترصدنى عيون الوحدة.. تعبث بى ريح المجهول العاصفة.. تبعثرنى.. تكشر عن أنيابها الصفراء.. تحاول أن تلتهمنى.. تتلقفنى تخاريف العرّافات.. تسقينى ترياق دجل.. لينتعش أملاً هلامياً كحبات سكر تذوب فى فيه حقيقة.. وحلماً ثملا يصحو عند أول إشراقة فجر.. أعياد وأعياد تحملنا شموسها.. تتسلل بنا عبر إشعاعاتها إلى الأمس.. تفتح بوابات الطفولة.. نتأرجح على كركراتها وصباحاتها المزركشة بالفطرة و(دواليب هوائية وأراجيح) تدور بنا على إيقاعات خوف طفولى لذيذ.. تدور وتدور.. ثم تقذف بنا إلى بساتين مراهقة وصبا نلملم باقات غزل عفيف نلفها بمناديل نقاء.. نجفف بها حبيبات عرق خجلى.. نهادى بها بعضنا بعيداً عن عيون الرقباء..! دواليب تدور.. تعلو وتهبط.. تلعب بنا كما الأيام.. أنا وأنت وحيرة تطول.. ندور.. والحجر يدور.. الوطن يدور.. الخناجر تدور.. والظلم يدور.. والشعوب تدور حول سواقى الذل تحيطها جحافل الشر.. تقرع أجراس الغضب.. وسحابات سوداء منذرة تقرع طبول الخوف.. أجراس ونواقيس وطبول.. يرتفع الإيقاع.. تتصاعد الدقات.. تلتحم جميعا فى سيمفونية رعب.. تقتحم النفوس.. تثير هلعها.. ينطلق الأذان ليخرس أصوات الفزع.. يردد الكون تراتيل العيد.. (الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر ولله الحمد) تهدأ الأنفاس.. تغرق الأرواح بنور الرضا. يطهرها من صدأ اليأس.. تصفّد أشباح الاستبداد.. تفرّ عناكب الشر السوداء.. تتدافع زاحفة الى جحور النهاية.. انظر إلى زاويتى المخضبة بعبق ابتسامتك.. أعلو فوق الأمس.. أجتاز حاجز الوجع.. تندفع الخطوات.. أخوض فى موج الشوق.. يتدفق الحنين.. أركع.. تنعتق الدموع من أسرها تبحث عنك.. عن حزن عينيك.. عن صمتك المتأجج ثورة.. عن موجات عطفك.. وعن وطنى الذى كان.. عن الأهل.. عن سمر ليالى العيد المزدانة بالأحباب.. وتنهيدة وجد مستعرة تخترق جدار صبر حجرى.. تتلقفها أرواحهم الهائمة فى عالم الرجاء.. تبحث عن بصيص قُرْب.. وعن طاقة نجاة.. عيد يتبعه عيد.. والغربة تمتد.. والهجرة تتسع.. والعمر يهترئ.. وعلامات استفهام تتكسر فوق سطور المؤامرة المرسومة بالحبر الأحمر.. على موائد تشريح الأوطان.. وبين صكوك بيع الضمائر.. وفى صالات مزادات بيع الكرامة.. والكل يترقب المخاض..الكل يترقب لحظة الميلاد. جسور العودة تترقب.. نبضات القلوب تترقب.. الموجات.. النسمات.. المساءات.. رائحة الكعك المنبعثة من أفران الحنين.. تترقب.. وعبارات التهنئة بالأعياد المزدحمة فى الحناجر.. تترقب.. تنتظر ثمة غيمة تحمل بشائر الخلاص.. تنهمر مطراً بلورياً ينعش سماء الأحباب.. يروى عطش الأرض الظمأى للحياة.. نشوة الابتهالات تأخذنى إلى عوالم الغد.. أنهل من كؤوسها رحيق الحبّ. أتسلل إلى محرابك نسمة ندية لعلّها تداعب قسمات وجهك الناضحة بهاءً.. لعلّى أرى طيفك المحمول على هدبىّ الغد..أناجيه.. أنْدَسّ بين جناحىّ فروسيته..نرتشف البداية من ثُمّالة النهاية الممزوجة بالصبر والأمل.. نسحق كوابيس الماضى بأقدام الإرادة.. فأكون أول من يضع قبلة العيد على جبينك العنبرىّ.. وأول من يهمس إليك ب«كل عيد وأنت بخير» يا سيّدى.. ياسيّد الغد. إليكم: كل عيد وأنتم ومصر وأوطان عروبتى والعالم أجمع بخير وسعادة وبهجة ورضا.. تهنئة صادقة تلتحف بقطعة حبّ سطرتها الروح.. أنطلق معكم بها فى دورة شوق بين ماض وحاضر وأوطان هدّها الحنين لنفحات عدل ونسيمات حرّية خارج قيود الصبر وأسوار الخنوع.. وذاكرة تبحث عن مفاتيح لبوابات الزمن الجميل تغترف منه أجمل ذكريات الأعياد.