بعد أن سمعنا عن «أنفلونزا الخنازير»، ها نحن نسمع عن مشكلة «الخنازير» فى الأوضاع المالية لدول الاتحاد الأوروبى، وحيث تنشغل دول الاتحاد بهذه المشكلة المالية، وإنصافاً لحق هذا الحيوان، فإن «الخنازير» الحقيقية غير مسؤولة عن هذه المشكلة لدول الاتحاد الأوروبى، بل المسؤول عنها مجموعة من الدول هى البرتغال وأيرلندا واليونان وإسبانيا، والحروف الأولى لأسماء هذه الدول تشكل كلمة PIGS، وهى أيضا نفس لفظ «الخنازير» فى اللغة الإنجليزية، فنحن هنا بصدد «خنازير» من نوع آخر. فهذه الدول - خاصة اليونان - تعانى من مشكلة مهمة وهى زيادة الدين العام، خاصة الدين العام الخارجى، وبما قد يهدد الاستقرار المالى لمنطقة اليورو، فيما إذا عجزت اليونان - أو غيرها - عن السداد لقروضها وسنداتها المطروحة فى الأسواق العالمية لليورو. ومن هنا أصبحت مشكلة هذه الدول الأربع مشكلة للاتحاد الأوروبى وبما قد يهدد الثقة فى عملة اليورو نفسها. وتعد هذه المشكلة هى أكبر تحد يواجه منطقة اليورو التى نشأت منذ إحدى عشرة سنة مضت. والمشكلة لا تكمن فى مجرد خطر عدم الوفاء لسندات حكومية مقومة باليورو، ولكنها تتركز فى أن المدينين هم بعض الدول الأعضاء فى منطقة اليورو، والخاضعة بالتالى لسلطة البنك المركزى الأوروبى، وبذلك فإن وقوع فشل فى الوفاء بهذه القروض من شأنه أن يعرض الثقة فى منطقة اليورو نفسها إلى كثير من الاضطراب. وترجع مشكلة اليونان،، وكذا بقية دول هذه المجموعة إلى تزايد الدين العام للحكومات نتيجة للعجز المستمر فى الموازنات الحكومية. وكانت معاهدة ماسترخت Mastricht والتى أنشأت منظمة اليورو قد وضعت مجموعة من الضوابط على حرية الدول المنضمة إلى منطقة اليورو، أهمها: ألا يتجاوز حجم التضخم 3٪ سنوياً وألا يزيد العجز السنوى فى الموازنة على 3٪ من الناتج المحلى وألا يجاوز حجم الدين العام 60٪ من الناتج المحلى، وكان الغرض من فرض هذه الشروط ضمان سلامة الاستقرار المالى لدول هذه المنطقة وتشجيع التعامل باليورو، وبالتالى توفير الثقة فى هذه العملة الجديدة. ورغم هذه الضوابط فإن دول منطقة اليورو لم تلتزم بدقة، دائماً، باحترام هذه القيود، وكان يتم التساهل فيها أحياناً عندما تسوء الأوضاع الاقتصادية المحلية، وبما يفرض على السياسيين «بعض» التجاوز فى هذه النسب لبعض الوقت نتيجة لتغيير الظروف الاقتصادية العالمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بدول مهمة فى الاتحاد الأوروبى مثل ألمانيا أو فرنسا، ومع ذلك فقد كانت هذه التجاوزات محدودة وقليلة ومؤقتة ولم تلبث أن تعود من جديد إلى الحدود الطبيعية. والمشكلة الحالية، خاصة بالنسبة لليونان، تجاوز الحدود السابقة للتجاوزات ليس فقط فى حجم التجاوز، ولكن - وهو الأخطر - فى اكتشاف «عدم الشفافية» وعدم دقة البيانات الإحصائية المتاحة إلى أن ظهرت الحقيقة على السطح كمفاجأة للجميع. فإذا كانت دول الاتحاد قد تساهلت - فى الماضى - مع بعض الدول المهمة لفترات مؤقتة وفى حدود ضيقة، فإن المشكلة الحالية هى أكبر بكثير من أى مشكلة سابقة لمنطقة اليورو. وإزاء هذه المشكلة فإن الجميع يجد نفسه فى مأزق شديد. أما اليونان، وحيث جاءت حكومة جديدة بعد الانتخابات، فإنها تجد أن حريتها محدودة إزاء الأزمة. فالحكومة اليونانية، وكنتيجة لانضمامها إلى منطقة اليورو، أصبحت غير قادرة على استخدام السياسة النقدية أو سياسة تغيير أسعار الصرف لمواجهة المشكلة. فبعد انضمام اليونان إلى منطقة اليورو أصبح تحديد السياسة النقدية وكذا أسعار الصرف لليورو من اختصاص البنك المركزى الأوروبى فاليونان لا تستطيع أن تتخذ - وحدها - أسعار فائدة مختلفة عن الأسعار السائدة فى منطقة اليورو، كما أنها - بالضرورة - لا تستطيع أن تغير بمفردها أسعار اليورو فى أسواق الصرف العالمية. ولم يعد أمام الحكومة اليونانية، بالتالى، إلا وسيلة وحيدة وهى السياسة المالية بزيادة الضرائب وتقليل النفقات العامة، وهى، فى جميع الأحوال، سياسات تواجه عادة مقاومة شعبية شديدة. وبالمقابل، فإن دول منطقة اليورو لا تستطيع - بسهولة - التخلى عن دولة - أو عدة دول - أعضاء فى هذه المنطقة، خاصة أن أى إخلال لأى منها فى الوفاء بقروضه الخارجية لابد أن يؤثر على مستقبل اليورو نفسه والثقة فى البنك المركزى الأوروبى، وهذه هى مشكلة «الخنازير» مع اليورو. ولكن ما هو الدرس المستفاد لنا فى ممارستنا للسياسة الاقتصادية المحلية، أعتقد أن هناك أمرين على درجة عالية من الأهمية عندنا، وهما على التوالى، خطورة تزايد عجز الموازنة، والأمر الثانى هو المشاكل الكبرى التى تترتب على عدم دقة البيانات الإحصائية وعدم الشفافية المالية. وقد عانت مصر من الأمرين فى الماضى بشكل كبير. وقد سبق أن أشرت فى مقال سابق، نشر فى هذه الجريدة فى 29 يناير 2010 بعنوان «القروض العامة ورقابة مجلس الشعب»، إلى التاريخ المعاصر لمشاكلنا مع الدين العام نتيجة لاستمرار تزايد عجز الموازنة، خاصة خلال عقد الثمانينيات حين تضاعفت الديون الخارجية حوالى ثلاثة أضعاف. ويبلغ الدين العام المحلى عندنا الآن ما يقرب من 80٪ من الناتج المحلى، والدين العام الخارجى حوالى 17٪ من الناتج المحلى، أى أن مجموع الدين العام يقارب حجم الناتج المحلى، كما يزيد حجم عجز الموازنة المتوقع هذا العام على 9٪ من الناتج المحلى، وكل ذلك لابد أن يدعو إلى دق ناقوس الخطر. وكانت الحكومة الحالية قد نجحت فى تحسين عدد من المؤشرات الاقتصادية فى السنوات الماضية، ولكن يبدو - حسب التوقعات - أن بعض المؤشرات بدأت تشير إلى تزايد العجز المالى بما يهدد بالعودة إلى العادات القديمة. فالدين العام وعجز الموازنة هما أخطر ما يهدد مستقبل التنمية فى مصر، وتزداد الأمور سوءاً إذا كانت الإحصاءات غير دقيقة وأحيانا خادعة، وإذا كانت دول الاتحاد الأوروبى ومنطقة اليورو تبدو وكأنها فوجئت بهذه الأرقام الجديدة للعجوزات فى اليونان وغيرها رغم صرامة الرقابة والإشراف على البيانات المالية والنقدية فى أوروبا، فأولى بنا أن نكون أكثر حذراً فى مراقبة سلامة البيانات، حتى لا نتعرض لما هو أسوأ من الخنازير الأوروبية، والله أعلم www.hazembeblawi.com