فى إحدى الإشارات بمدينة نصر تجده يتجول حول السيارات يقف أمام كل واحدة لمدة دقيقة أو دقيقتين خلال فترة توقف الإشارة، تجده ماسكا بيده مجموعة من الكتب التى تحمل صورته وهو بزى الإحرام، وأخرى مع اللواء عبدالحليم موسى، وزير الداخلية الأسبق، الكتب تحمل عناوين «اعترافات اللص التائب» و«كيف تحمى بيتك من السرقة؟» و«عودة اللص التائب من داخل مستشفى المجانين». يقف أمام كل سيارة يقص حكايته وكيف أن الله تاب عليه من السرقة، وأنه أرجع كل ما جمعه الى وزارة الداخلية وأصبح الآن يجمع قوت يومه من بيع مذكراته فى الإشارات، وبعض النصائح. لم يكن محمد راشد محمد، من قرية العوامية مركز ساقلته محافظة سوهاج، 48 عاماً يعرف ما هو السبيل وراء كسب الرزق ليأتى بأموال ينفقها على أمه وإخوته الصغار «الجوع وحش والحاجة أوحش، ومحدش بيساعد حد فى الزمن ده». فعندما كان عمره 13 عاما تركه والده وفى رقبته إخوته الخمسة الصغار ليتحمل هو مسؤوليتهم بعد أن قرر والده الاستقرار فى القاهرة بجانب الجراج الذى كان يغفره فى وسط البلد، ثم هجرهم بعد أن تزوج إحدى السيدات فى الغربية وترك زوجته وأبناءه تماما بلا مأوى. عم محمد قال: «الأب هو جدر الشجرة إذا صلح صلح أبناؤه وإذا مال مال معه أبناؤه، وأبويا كان السبب وراء انحرافى كان دائما يبحث عن مزاجه يتعاطى الحشيش ويذهب إلى الأفراح ليرمى أموالنا على الراقصات، وكان طبيعياً أن ينتج مجرما مثلى». ودائما كان محمد يجد عند الجيران ما يسد جوعه وجوع إخوته وتمضى الأيام ومحمد يدور على البيوت يستجدى منهم الطعام، إلى أن جاء يوم طرق محمد باب جار فلم يجبه أحد، طرقه مرة أخرى فلم يجب، دخل إلى ساحة البيت لم تكن هناك سوى مجموعة من الدجاج والبط والديوك الرومية تمرح فى الساحة الواسعة، هو لا يدرى بالضبط ما الذى دفعه إلى أن يجرى خلف أحد الديوك الرومية ويمسك به، هل هو وعيه بالفقر أم الجوع؟ وربما كان حجم الديك الرومى هو الذى أثار الصغير، وحمل الديك وجرى إلى أمه، حظه الحسن أو ربما السيئ أن أحدا لم يره ولم تسأله الأم من أين جاء به، لقد امتلكها فرح جنونى دفعها إلى سرعة ذبحه وطهوه، وتحلق الصغار حول الديك الرومى يأكلون. «وقتها كنت طالباً فى الصف الثانى الإعدادى وكنت من الطلبة المتفوقين والمتميزين فى القرية وكنت ممتازاً جدا فى الدراسة ودايما كنت بطلع الأول على القرية، لكن مع الأسف ملقتشى اللى يعتنى بيا، ووصلت الى الصف الرابع فى مدرسة دار المعلمين ولو أكملت تعليمى لكنت أصبحت مدرساً مرموقاً، وكان ذكائى يساعدنى كثيراً، هذا الذكاء إذا استغل وقتها فى التعليم لكنت أنافس الآن الدكتور أحمد زويل، وكنت عاشقاً للأفلام الأجنبية وأهمها أفلام الأكشن التى كنت أشاهدها على مقهى صغير». فيلم «نار الجحيم» كان هو نقطة التحول فى حياة عم محمد حيث كان يحب البطل «بد سبنسر» الذى كان يتمتع بجسد ممتلئ مثله، وكان يجسد شخصية لص محترف فى سرقة المنازل، كان يشبه حاله كثيرا، فقير معدم يتسول الطعام من الجيران لإخوته، يتعرض لجميع الضغوط والسخط من المحيطين به حتى عرف طريق السرقة وأصبح رجلا ثريا تنحنى له رؤوس العظماء. «يارتنى ماكنت شوفت الفيلم ده، اتعلمت منه سلبيات كثيرة أفادتنى فى طريق الانحراف»، فكما كان «بد سبنسر» يسرق شقق الأثرياء فى أمريكا وباريس ذهب محمد ليسرق شقق الزمالك والمهندسين والعجوزة والدقى. «تفرغت للسرقة للصرف على إخوتى الخمسة، استغليت ذكائى فى سرقة الشقق، وكنت أستخدم أساليب كثيرة لمعرفة إذا كان هناك أحد فى المنزل أم لا، ودايما كنت أركز على شقق المشاهير والأجانب، كنت بلاقى فيها (هوبر)، وكنت أشيل ما قل وزنه وغلى ثمنه يعنى أشيل ألماظات- فلوس- ذهب». ثلاثة شهور فقط فى العام هى فترة الإجازة الدراسية كانت كافية لأن يترك الصعيد ويقيم فى القاهرة ليجمع غلة السرقة طوال الإجازة ويعود إلى بلده لينتظم فى المدرسة. لم ينس عم محمد أول شقة كسرها وسرقها حيث كانت بالدقى، وكانت ملك الدكتور صوفى أبوطالب رئيس مجلس الشعب السابق، وقال: «دخلت شقة الدكتور صوفى ولم أعرف أنها شقته إلا من الجرائد، فقد كنت حريصاً على أن أطلع على الجرائد اليومية خاصة بعد كل سرقة أقوم بها، أما المصوغات والمجوهرات فدائما ما كنت أبيعها إلى التجار فى الصعيد بعد أن أدعى أننى ابن عمدة كبير فى البلد». مواعيد عمله كانت ثابتة مثل عيادة الدكتور «كنت بسرق من 9 إلى 12 صباحا بعد خروج الموظفين والطلاب إلى المدارس وستات البيوت إلى السوق،وهناك أوقات أخرى يستغلها الحرامية هى وقت مناسبات الأعياد وإجازة المصايف ونصف السنة بعد أن يترك الناس منازلهم ويعودوا إليها ليجدوا الحرامية (أشطوا) البيت، أما إجازة الحرامى فدائما تبدأ بعد إجازة المواطنين بعد أن يكون لم الغلة والناس رجعت بيوتها فيذهب هو إلى التنزه». استطاع عم محمد أن يكون ثروة طائلة من السرقة وأخذ الشاب الفقير شقة تمليك فى شارع نوال بالدقى وقال: «وقت أن كنت أشعر بالضيق كنت أذهب إلى فنادق وسط البلد وأحجز جناحاً مطلاً على النيل لمدة شهر أو أكثر، ووضعت فلوسى فى بنكين أحدهما أجنبى أضع فيه العملات الأجنبية والآخر مصرى، فقد كنت أتعامل مع البنك الذى كان أبى يقف سايساً أمامه، واشتريت سيارة واستأجرت لها سائقاً، وتزوجت وأنجبت 4 أبناء ووصل عددهم فيما بعد إلى ثمانية، وعاش أمى وأبى معى كما أننى ساعدت إخوتى أن يكملوا تعليمهم ثم تزويجهم بعد ذلك». كنت مجرم طيب لا أقتل أو أزنى، ونتيجة هذه الصفات دخلت السجن لأول مرة فى حياتى وقتها كان عندى 24 عاماً، عندما كسرت شقة سيدة مسنة لديها أكثر من 70 عاماً فأخذت تصرخ ووقفت أمام الباب حتى لا أهرب فقلت لها: (صوّتى يا حاجة) بدلا من أن أدفعها وتسقط ميتة على الأرض، وأعرض رقبتى لحبل المشنقة، بالفعل لمت الناس علىّ وذهبت إلى السجن وهناك عرفوا جميع سرقاتى السابقة من خلال بصماتى وأخذت حكماً بالسجن 3 سنوات. السجن كان بمثابة الأب الحقيقى لى، والذى تربيت على يده التربية التى حرمنى منها أبى، وتلك كانت المحطة الثانية فى حياتى، هناك حمدت ربنا أن فى مصر توجد سجون مثل هذه، حيث تعرفت هناك على «ذئاب بشرية» منبع الإجرام والخطر على مصر، بشر مثل الجراد المنتشر، عالم منحط وقذر وفيه المجرمون والشواذ، ومن الرجال من اسمه حمدى ويطلق على نفسه حمدية، وقتها قررت الابتعاد عنهم نهائيا وأطلقت لحيتى والتزمت فى الصلاة. بعد أن خرجت من السجن قررت أن أرجع الأموال إلى أصحابها، فذهبت إلى اللواء عبدالحليم موسى، الذى كان وزير الداخلية فى ذلك الوقت، ومعى كل أموالى التى سحبتها من البنوك وعقد تمليك لعمارة فى وسط البلد ومفاتيح عربية وسوبر ماركت وكل ما أملك». كان أمامه حمل ثقيل هو أن أسرته التى اعتادت على أكل الحرام رفضت أن تعطيه أوراق الممتلكات، لكنه أخذها منهم بالتحايل، كما أنهم رفضوا توبته وأخذوا يقارنون له حياتهم وقت الرفاهية والتمتع بالملايين وحياتهم بعد أن يسلموا كل شىء. لم يلتفت لهم محمد وذهب وسلم كل ممتلكاته وبعد أن علم الرئيس مبارك بما فعله أعطاه شقة ومنحة مالية ساعدته على الحياة لفترة، ومكافأة رحلة حج، وهناك حصل على منحة أخرى من رجال أعمال سعوديين. هذه المنحة لم يستفد منها كثيرا خاصة بعد أن قام بشراء ماكينات خياطة وأجهزة موازين ووزعها على التائبين ممن خرجوا من السجن ليبدأوا بها مشاريع صغيرة بدلا من العودة الى طريق الانحراف، أملا فى أن يتقبل الله توبته. لم يتبق معه من هذه الأموال شىء فاضطر إلى أن يكتب مذكراته، ويضعها فى كتاب، ومعها بعض النصائح لتفادى سرقة المنازل، والتى اكتسبها من أساليب الحرامية والنشالين داخل السجن، الكتاب بعنوان «كيف تحمى بيتك من السرقة؟»، وأخذ يوزعه فى الإشارات، وتلك الكتب كانت هى المورد الوحيد لتربية أبنائه ال8، واستطاع أن يزوج منهم ثلاث بنات وعلم آخر وساعده فى الحصول على بكالوريوس الهندسة، ولا يزال لديه الآن أربعة أطفال فى مراحل التعليم المختلفة.