يوجه القرآن الكريم أنظارنا فى هذه الكلمات القلائل إلى ظاهرة من أكبر الظواهر التى تحكم المجتمعات، وبقدر ما تكون فى بداياتها عنصر تواصل، فإنها بعد هذه البداية تصبح عنصر تخلف، وتكون أكبر عقبة تواجه المصلحين والمجددين، الذين يريدون أن ينتشلوا الأمة من وضع متجمد تسوده السلبية ويغلب عليه الجهد الأقل، أو حتى اللاجهد، اكتفاءً بما وضعه الآباء، وينسون أن هذا لا يعنى إلا النظر إلى الخلف، والسير إلى الوراء، وهذا يضاد كل عناصر حيوية المجتمع، تلك الحيوية التى تدفعه للعمل والحركة، وتوجهه لبذل الجهد، وتحمل المعاناة، والقيام بالمسؤولية، والسير بالمجتمع نحو الأمام والمستقبل، ثم إن هذه الدعوة منهم بألا يتبعوا إلا ما ألفوا عليه آباءهم، لا تعنى سوى عدم إعمال العقل وإيثار النقل والاجترار، فكيف فاتهم أن هذا لا يعنى إلا صدأ العقل، وصدأ العقل عندما يستمر يشل العقل، وعندئذ فإنهم فرطوا فى أثمن ما أودعه الله فى الإنسان، وما ميزه على بقية خلقه، وما جعل الملائكة تسجد له، فالعقل هو الذى يميز بين الإنسان والأنعام، ومن يهمله يصبح أسوأ من الأنعام، لأن الأنعام ليس لها عقل أصلاً، ولهذا قال القرآن «أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ»، فالعقل هو الذى يميز به الإنسان ما بين الحقيقة والخرافة، فإذا لم يعمله فإنهما يصبحان سواء. المفارقة أن الذين يصيحون تلك الصيحة يدعون أنهم حماة الحمى، وحفظة التراث، وذاكرة الأمة، وأن الذين يدعون إلى غير ما ألفوا عليه آباءهم، يزجون فى عالمهم بفكر غريب ويطبقون «أجندة أجنبية». وقد ذهبوا إلى ذلك لأنهم لا يفهمون أو يسيئون السير مع التاريخ، ولا التعايش مع الدول الأخرى قريبة أو بعيدة، وهم يصورون أنفسهم أنهم فى وضع مستقل.. محصن.. منعزل لا تؤثر عليه الأحداث ولا تنال منه التطورات، يظنون هذا وهم يعيشون فى عصر السماوات المفتوحة والزمن الذى ألغى المساحات، وأنه ما من دولة تستطيع أن تتكفى على نفسها أو تغلق أبوابها، ولم تعد البحار والجبال حائلاً، لأن الأمر أصبح يقضى فى السماوات، هؤلاء قوم لهم عيون لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها. وليس مما يستغرب منهم أن يخلطوا ما بين «التمييع» وما بين توخى الحكمة والأخذ بها حيث كانت، ولا التواءم مع منطق الزمن والتطور، فهذه كلها أصبحت من أول أوليات عمل المجتمع ولا يمكن تجاهلها أو تغافلها أو الفرار منها، وهذا كله لا خير فيه، والخير هو فى التعامل مع الحاضر والاستعداد للمستقبل ومجابهة المشكلات والقضايا بما يؤدى إلى حلها. ألم يقرأوا «اطلبوا العلم ولو فى الصين»، و«الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها». «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ».