مسكوناً بالندم كنت أجلس شارد الذهن بحوش منزلنا الفخيم أتأمل شمس النهار الغاربة فيما تخترق أذنيى الكبيرتين أصوات متداخلة لمزمار بلدى وهتافات صاخبة ودقات طبول، فتقفز إلى شاشة ذاكرتى صورة أبى – رحمه الله – وهو يوصينى بضرورة إمساك العصا من المنتصف والوقوف فى المنطقة الرمادية المضببة حتى يتسنى لى ركوب الموجة – خلسة – والوصول إلى الشاطئ دون عناء!!! فأشعر بأننى قد خلعت جلباب أبى وأصبحت عاريا أمام الجموع الحاشدة التى جاءت بصحبة نائب الدائرة الجديد للاحتفال وتقديم الشكر لأهالى القرية فى منازلهم.. رويدا رويدا يقترب الموكب وتصلنى الهتافات واضحة جلية.. «أبوشادى يا عود ريحان مبروك عليك البرلمان» فتحتل القشعريرة جسدى وعبثا أحاول التماسك فينبثق أمام عينيى الكليلتين وجه أمى – رحمها الله – نحيفا ممصوصا ضامرا وهى توبخنى كعادتها لعدم استجابتى لنصائح أبى قائلة لى فيما يشبه الهمس «اللى ما يسمع لما يشبع» فيملؤنى الحزن وأقف محتشدا بالفوضى باحثا عن مخرج للورطة التى وضعت نفسى فيها، بعد السقوط المدوى للمرشح الذى أيدته – خلافا لتراثى العائلى – علانية وناصبت من أجله أهل قريتى العداء.. عندئذ كان الليل من حولى قد بدأ يفرد ستائره الشفافة المضخمة بالبرد والصقيغ فأحس بشوق جارف إلى أبى وأهب واقفا ألملم بقايا روحى متجها إلى حجرة الجلوس، تلك الحجرة التى حكم منها أبى هذه القرية – كعمدة – لمدة أربعين عاما فتطالعنى على الجدران الكالحة صوره فى أوضاع شتى ومناسبات متباينة.. وهو يشارك فى احتفالات عيد ميلاد الملك وقد أضاءت من حوله الألعاب النارية ليل القاهرة كاتبة فوق رأسه تماما بحروف من نور «يعيش جلالة الملك السعيد»، وهو يشعل سماء القرية بزخات متتابعة من فوهة بندقيته الطليانى ابتهاجا بمرور اللواء محمد نجيب من القرية راكبا القطار فى طريقه إلى الإسكندرية!!! وهو يصافح الرئيس ناصر ويتسلم منه يداً بيد عقود التمليك فى عيد الفلاح!!! وهو يجلس بدوار العائلة جنبا إلى جنب الرئيس السادات حينما زارهم وصلى معهم الجمعة بالقرية فأشعر إلى جانب أبى بالضآلة وأخرج تهز كيانى البض جلبة الموكب الهادر فيما يروح حصانى الأشهب المربوط على مقربة منى فى التمايل بارتياح على إيقاع الطبل البلدى وعلى الفور تلمع داخل رأسى المظلم فكرة فأهمس بصوت مسموع إلى نفسى قائلا «تاهت ووجدتها» وعلى عجل أفك حبل الحصان وأضع السرج الأحمر فوق ظهره وفى دقائق أكون فد اجتزت البوابة الحديدية العملاقة، تتسرب إلى أنفى الأفطس رائحة العفن الناجمة عن اختلاط الفطر الأخضر بالبيض الفاسد الذى يطفو على سطح المياه الراكدة بالترعة الموازية للطريق، وبمجرد وصولى أقتحم الحشد محتضنا سيادة النائب فيضع حضورى المباغت لجام الصمت فى أفواه المنشدين ويجف فجأة شلال النغم الدافق. وعلى الفور يندفع أحد الحاضرين وفى سخرية فجة قائلا «سبعة وجوه وأستك» ويرد آخر «واللهى لو كان وجهه كاوتش لكان فرقع» فتنزل هذه العبارات علىَّ مثل جردل مياه باردة دلق فى رعونة فوق رأسى وبلل كيانى كله، فأدرك أننى قد أصبحت باهتا بالدرجة التى لا يمكن معها التراجع فأتقدم نحو سيادة النائب وأحمله واضعا إياه فوق ظهر الحصان وتنطلق الموسيقى لتعانق فروع الأشجار ويتدفق مرة أخرى شلال النغم إلى الحوارى والأزقة بينما الحصان يقف وديعا هادئا وكأنه يتأمل ما يحدث!! فأدفعه بكف يدى فى مؤخرته حتى يبدأ الرقص، إلا أنه يتراجع للخلف محدثا نوعا من الفوضى بين الحضور، فأسحبه إلى الأمام فيجثو على رجليه الأماميتين وكأنه يريد إنزال سيادة النائب من فوق ظهره، فأهدئ من روعه وأمسح على جبهته برفق فيما يلتف من حولنا الحاضرون فى شكل دائرة.. وبسرعة ألف شالى الأبيض حول خصرى وأروح أراقص الحصان متمايلا على أنغام الموسيقى مثل عود كافور لين إلا أنه يباغتنى فى استدارة سريعة رافعا ذيله وقاذفا بدفعات متتالية من الروث اللين يطول رذاذها وجهى وتبرقش ثوبى الأبيض ببقع صفراء داكنة ومائلة إلى الاخضرار. قصة : سعداوى الكافورى البحيرة مواليد 1966 ليسانس الآداب قسم الاجتماع له ثلاث مجموعات قصصية