تجوالى عبر الزمان لم يعد سراً، لكنى لم أُفش التفاصيل بعد. كيف يحدث هذا؟ هذا ليس موضوعنا الآن. المهم أننى كنت هناك، رحلة خلال مائة عام. ضبطت التقويم على 1910 ثم أرسلت روحى فوجدت نفسى هناك. تالله ما أجمل القاهرة البكر!. لن أستطيع أن أصف لكم مشاعرى فى هذه اللحظة وأنا أشاهد القاهرة كما تبدو فى الصور القديمة. البكارة الأولى، وكأنك ترى حبيبتك قبل أن تصبح حبيبتك وهى فى الخامسة عشرة من العمر. تتوهج عيناها وتحلم بنصيبها من الحب الذى لم تكن تعلم أنه أنت. الطرابيش التى اعتدت رؤيتها بالأبيض والأسود كانت حمراء قانية، والشباب يمشون وقد بدت على وجوههم الخطورة البالغة، أما رجال الأربعين فقد خبروا الدنيا وعرفوا كل شىء، لهم من الهيبة ما لا تجده اليوم فى شيوخ السبعين. الحياة يغلب عليها البساطة والرضا، مصر فى فترة نقاهة بعد فشل الثورة العرابية والاحتلال البريطانى وموت مصطفى كامل. الأمور تسير فى هدوء ظاهرى، والحرب العالمية الأولى على الأبواب. القاهرة 1919 المشهد هذه المرة شديد الاختلاف. الشارع المصرى يموج بالوطنية والقوى الكامنة فى روح شعب تتوثب للنهوض. الوجوه الشقراء تسمع الهتافات، والعيون الزرقاء تشاهد المظاهرات عاجزة عن الفهم. عصيان مدنى، والحزن النبيل الذى صهر المصريين فى بوتقة واحدة، وألم لذيذ يشبه آلام المخاض. رصاص الاحتلال ينهمر فيسقط الشهداء وهم يهتفون باسم مصر، وفى اللحظة ذاتها تتعالى الزغاريد تشق الفضاء. شعب يطلق الزغاريد عند سقوط الشهداء لا يمكن هزيمته، الزغاريد ليست ظاهرة صوتية، إنها قوى روحية لا يمكن ردعها، مشيعون يرافقونه للملأ الأعلى، تحية من نوع خاص. أنتقل بضع سنوات، دماء الشهداء صارت نسياً منسياً، لا يذكرها إلا الله ودموع الأمهات. أما الحاضر فلعبة الكراسى الموسيقية لأحزاب يتصارعون على رضا الملك والمندوب السامى. فى الجانب الآخر كانت القاهرة جميلة فعلاً. مدينة البهجة ذات الرضا والأضواء، ببيوتها الرحبة وشرفاتها العالية، وميادينها المتسعة، وشوارعها المغسولة بالماء والصابون. حين كان مرتب الموظف يكفل له الحياة الرغدة ويتيح له أوقات للحب، ذلك الشعور الذى انقرض عندنا مع زحمة الحياة. لماذا تمرد أجدادى على هذا الوضع الذى لا نحلم الآن بنصفه!، لماذا قامت الثورة وفرح بها الناس؟، وهل كانوا يفرحون لها لو استشرفوا المستقبل وعرفوا ما يخبئه الزمان؟ وفجأة وجدته أمامى، طويل القامة بارز الملامح قوى العينين. رحت أدقق فيه فعرفت أنه جمال عبدالناصر. نظرت للتقويم فوجدت أننى فى ليلة 23 يوليو عام 1952. وفجأة فكرت فى خاطر مذهل، ماذا لو حكيت له مآل الأمور؟ ترى هل يتراجع عما ينوى القيام به أو يحاول تصحيح الأخطاء! (البقية غدا إن شاء الله). [email protected]