يقع الإنسان فى الحب وهو لا يعرف سبباً أو يملك تفسيراً لمشاعر رائعة بدأت فجأة تتسلل تحت الجلد وتستوطن القلب والفكر والبال والأحلام طول الوقت.. فى البداية يرفض ويحاول أن يقاوم ويهرب ولكنه يفشل فيضطر للاستسلام راضياً ومستمتعاً وممارساً لصفة ودور العاشق.. هذا هو حال الإنسان الذى يحب.. وأيضا حال الملايين التى تحب كرة القدم.. ويبقى الإنسان لا يعرف لماذا هذا الحب، ولا الناس أيضا تعرف لماذا كرة القدم.. ثم تأتى لحظات أخرى تتكشف فيها يوما بعد يوم أسباب هذا الحب وتتأكد تفاسيره ودواعيه وتتضح قيمته وضرورته.. وقد لا تكون المشاهد التى سبقت وصاحبت نهائى المونديال بين الإسبان والهولنديين جديدة أو مفاجئة أو مربكة لعشاق كرة القدم فى كل مكان.. فقد اعتادوا عليها فى مثل هذا الوقت كل أربعة أعوام.. ولكن تبقى لنهائى هذا المونديال الأفريقى خصوصيته، وتبقى هذه التفاصيل الصغيرة، التى حين تتجمع كلها تصلح أن تكون سبباً كافياً ومقنعاً يجبرنا كلنا على تقديم وردة لكرة القدم.. وسواء كنا نحب كرة القدم وكان بيننا من يكرهها نفرح معها، وبيننا من لا يحفل بها على الإطلاق، ننشغل بحكاياتها وتفاصيلها، وبيننا من يرى هذا الانشغال دليلاً على السطحية والتفاهة والسذاجة.. الذين عابوا ورفضوا كل هذا الحب لكرة القدم وأزعجهم وأحزنهم أن تحظى الكرة بهذا الحب وهذا الوقت بدلاً من العلوم والبحوث أو الثقافة والفنون، من المؤكد أنهم يجهلون تماما كل هذا الذى باتت تستطيعه الكرة فى عالمنا ولا يقدر عليه أى أحد أو أى شىء آخر.. فلا شىء يحارب الحزن والإحباط أكثر من كرة القدم.. لا شىء يسرق من الفقر بعض قسوته مثلما تفعل الكرة ذلك.. وإذا كان هذا المونديال قد نجح فى إطلاق ثلاث مبادرات أفريقية: الكرة من أجل التعليم.. ومن أجل الأمل.. ومن أجل الصحة.. وبدأت مشروعات وخطوات كثيرة ومتلاحقة لاستثمار الكرة وشعبيتها من أجل مدارس ومستشفيات وبيوت للأطفال والفقراء فى أكثر من دولة أفريقية.. فإن هذه اللعبة الجميلة أيضاً فاجأت الهولنديين أنفسهم بأنها وحدها باتت قادرة على التصدى لكل حالات الكراهية المتفشية داخل المجتمع الهولندى للمسلمين سواء كانوا أتراكاً أو مغاربة.. لا المشروعات الثقافية والإنسانية ولا الدراسات والكتب ولا البرامج التليفزيونية نجحت فى امتصاص الحساسية والغضب الهولندى المكتوم حتى جاءت الكرة لتصبح هولندا بسببها أكثر تسامحا.. وكان كافياً جداً أن يكتشف الجميع أن النجم الهولندى فان بيرس الذى عاش طفولته وسط مهاجرين مغاربة وأول حب فى حياته كان لفتاة مغربية مسلمة تزوجها.. حتى تتبدل رؤية كثير من الهولنديين للعرب والإسلام.. بل إن الحديث عن احتمال أن تكون هذه الحبيبة قد أقنعت فان بيرس باعتناق الإسلام دون أن يعلن ذلك لم يؤد لأى توتر أو غضب داخل صفوف الهولنديين المتعصبين.. فقد ثبت أن الكرة أقوى من أى تعصب أو كراهية.. ثبت أيضاً أن الكرة هى التى يمكن أن تخلق حالة تسامح مؤقت بين مدريد وبرشلونة فى إسبانيا.. وأنها الوحيدة القادرة على إزالة أى صراعات أو فوارق بين الجمهوريات السويسرية.. وأنها تحتل المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله فى حياة اللاتينيين.. وأنها الحب الحقيقى والرائع الذى يحتاجه عالم مسكون بالحقد والخوف والغضب. [email protected]