كانت فكرة مميزة حقاً، أن تتيح مكتبة الإسكندرية لأكثر من سبعين من قيادات العمل الإعلامى فى 17 دولة عربية الفرصة لمناقشة عدد من الهموم والمشكلات وجوانب القصور، التى تهيمن على الواقع الإعلامى العربى، وتُحدّ كثيراً من قدرته على الانطلاق، وتضاعف الضغوط التى تستهدفه، وتزيد الممارسات المسيئة التى تصدر عنه أحياناً، فى الوقت ذاته. فعلى مدى يومى الخميس والجمعة الماضيين، استضافت المكتبة «الملتقى الثانى لقادة الإعلام العربى»، الذى نظمته بالتنسيق مع «هيئة الملتقى الإعلامى العربى»، حيث تمت مناقشة ثلاثة محاور مهمة؛ أولها يتصل بطبيعة الدور الذى يمارسه الإعلام تجاه العلاقات العربية البينية، وثانيها يختص باقتصاديات الإعلام، فيما ينصب ثالثها على علاقة الإعلام بالسلطة فى المجتمع العربى. ورغم أن المدعوين لذلك المحفل المهم يمثلون معظم الدول العربية الفاعلة فى الفضاء الإعلامى العربى، وبعضهم يشغل مناصب رسمية رفيعة وينهض بأدوار مهمة فى صناعة القرار فى بلاده، فيما يتولى آخرون رئاسة مؤسسات إعلامية كبيرة أو يقودون اتحادات مهنية ونقابية فاعلة، ورغم توافر فرص واسعة لخلافات سياسية وأيديولوجية ومهنية بين عدد ليس قليلاً من الحاضرين.. فإن أبرز ما حصل خلال هذا الملتقى كان التوافق النادر على ضرورة الوصول إلى خطوط عريضة، يمكن من خلالها إصلاح أوضاع بات واضحاً أنها تحتاج تدخلاً عاجلاً لتحجيم آثارها. ومن أبرز الجوانب التى شهدت توافقاً عاماً، ما حصل خلال جلسة «الإعلام والعلاقات العربية»، حيث رأى أغلب الحاضرين أن وسائل إعلام ما فى أكثر من دولة عربية تورطت فى ممارسات مشينة ومبتذلة على خلفية خلافات سياسية بين بعض الحكومات؛ الأمر الذى حط من مهنيتها، وأساء إلى دولها، ونال من كرامة شعوب عربية أخرى، وأسهم فى تخريب العلاقات العربية البينية، أو قلص فرص تطورها على أقل تقدير. ولذلك، فلم يكن مستغرباً الاتفاق على ضرورة تبنى وسائل الإعلام العربية المعايير المهنية والأخلاقية المتعارف عليها فى إطار تصديها لتغطية موضوعات العلاقات الخارجية، خصوصاً تلك التى تتصل بالعلاقات البينية العربية، وعدم التورط والانسياق خلف مواقف سياسية تتبناها بعض الدول أو الجماعات، ضمن أطر سياسية تخضع للتبدل عادة، وفق الظروف ومقتضيات المصالح المتغيرة بطبيعتها. أما جلسة «اقتصاديات الإعلام»، فقد كان أبرز ما فيها محاولة الإجابة عن تساؤل بخصوص كيفية إبقاء المُلاك وسائل الإعلام التابعة لهم ضمن الخط التحريرى الذى يحبذونه، دون أن يكون ذلك افتئاتاً من الملكية على الإدارة، وتغولاً نابعاً من نمط التمويل على معيارية أداء المهنيين المتخصصين، وحرفاً للوسائل نحو تحقيق أهداف تتصل بالرؤية السياسية أو المالية للمالك من دون أن تتوافق مع الاعتبارات والأساليب المهنية. وقد رأى كاتب تلك السطور، خلال مداخلته فى الملتقى، أن تجريد المالك من صلاحيات تضمن له إبقاء الوسيلة التى يمتلكها أو يمولها ضمن الإطار التحريرى الذى يحبذه، يمثل إشكالاً حقيقياً، قد يحد من ذرائع التملك؛ الأمر الذى يؤثر فى قدرة الصناعة الإعلامية على تحقيق الازدهار، وربما البقاء أيضاً. وفى الوقت ذاته، فإن تدخل المالك، سواء كان دولة أو حزباً أو شركة أو شخصاً فرداً، فى تفصيلات العمل الإعلامى، واستخدام سلطاته كمصدر تمويل فى صياغة الأداء وتأطيره، سيضر أيضاً بالصناعة، ويحولها إلى أدوات ارتكاز سياسى وأبواق دعاية أو مشروعات ربحية لا تراعى أى معايير أو أسس. ويبقى حسم تلك المشكلة مرهوناً فقط بقدرة المالك على تحويل الوسيلة إلى العمل وفق النمط المؤسسي؛ الذى يلزمه بإعلان رؤيته، وعناصر مهمته، والقيم التى يتبناها، وخطته الاستراتيجية، والأدلة المهنية التى يعتمدها، وسياسات التوظيف والتدريب ومراقبة الجودة التى ينتهجها للعاملين معه فى الوسيلة، وللوسط الإعلامي، وللمجال العام، على أن يكون ذلك الإعلان بمنزلة التزام منه بكل ما ورد فيه. فإذا استطاع ملاك الوسائل الإعلامية فى العالم العربى الوصول بنمط أداء وسائلهم إلى الصيغة المؤسسية عبر استكمال أغراض بنائها المتكاملة، فإنهم فى هذه الحال سيكونون قادرين على إبقاء تلك الوسائل ضمن الخط التحريرى الذى يرتضونه لها، وهو خط سبق الإعلان عنه للمجال العام، كما سيكون باستطاعتهم السيطرة على مدخلات الصناعة من خلال آليات التوظيف والتدريب والأدلة المهنية العامة والنوعية، والتحكم فى المخرجات عبر آليات المتابعة والمحاسبة وتقييم الجودة ذات الطابع المؤسسى. وعلى الرغم من أن الجلسة الثالثة عقدت تحت عنوان «الإعلام والسلطة»، فقد أخذتها المقاربات والمداخلات المختلفة نحو عنوان آخر تحدث عن «سلطة الإعلام فى مواجهة غيرها من السلطات»، باعتبار أن الإعلام سلطة رمزية ذات دلالة اعتبارية، يزيد تأثيرها فى الآونة الأخيرة باطراد، فيما تتداخل وتشتبك مع عدد من السلطات الأخرى، بعضها مقنن، مثل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبعضها الآخر غير مقنن، مثل: سلطة الجمهور والقوى الاجتماعية والدينية والحركات والميليشيات فى بعض الدول. والواقع أن النقاش الذى احتدم والجدل الذى ساد، خلال الملتقى، بحاجة إلى مزيد من البحث والدرس، وهو ما يمكن أن يكون موضوعاً لمقال آخر، خصوصاً أن الإعلام بات أكثر أهمية ونفاذاً فى حياتنا من أى وقت مضى.