(نص وشهادة): بدأت شاعرا لكن أول ما نشر لي قصة كنت معروفًا أيام الجامعة بين زملائي بأنني ممن ينظمون القصيد، عموديا وحرا، ولا أزال أحتفظ في أوراقي القديمة بقصائد بهتت حروفها، لكن لم تفارق وجداني ومخيلتي، إذ سرعان ما انداحت في أعمالي النثرية والسردية، التي أحاول ألا أتخلى فيها عما منحني الشعر إياه من ضرورة الولع بالبلاغة والجمال والمفارقة وصناعة الدهشة والقدرة على إطلاق الخيال والتخييل. يظن كثيرون أن كتاباتي الأدبية لاحقة على انشغالي بالبحث في العلوم الإنسانية عامة، والاجتماع السياسي على وجه الخصوص، لكن العكس هو الصحيح، فأول ما نشر لي كانت قصة قصيرة احتلت الصفحة الأخيرة من جريدة "الشعب"، وأول رزق أكسبه من الكتابة كان عن قصة أيضا، بعد أن فزت بالمركز الأول في مسابقة أدبية لجامعة القاهرة سنة 1988، وأول محاولة لنشر كتاب كانت مجموعة قصصية ذهبت بها إلى سلسلة "إشراقات أدبية" التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، لكنها لم تر النور، وتخليت عنها تماما، حين كتبت ما هو أفضل، واعتبرتها فرصة للتجريب والتجويد، وأول جائزة أحصل عليها كانت عن قصة وإذا كانت الظروف قد دفعت كتابي "الصوفية والسياسة في مصر" كي يظهر أولا سنة 1997، فإنني سرعان ما نشرت مجموعتي القصصية الأولى "عرب العطيات" 1998 وبعدها بثلاث سنوات صدرت روايتي الأولى "حكاية شمردل". وبلغ انشغالي بالأدب حدا كبيرا لدرجة أنني طوعت له دراستي للدكتوراه، فجعلتها عن "القيم السياسية في الرواية العربية" مدفوعا بالرغبة في معرفة الرواية بنصها ونقدها أكثر من معرفة السياسية بتصاريفها وأحوالها. وبعدها توازى إنتاجي الأدبي مع العلمي، لكني لم أقصر أبدا في الأول، بل جعلته هو الأساس ولو أنه يعينني على العيش ما كتبت غيره، فحتى الآن لي سبع روايات هي "حكاية شمردل" و"جدران المدى" و"زهر الخريف" و"شجرة العابد" و"سقوط الصمت" و"السلفي" و"جبل الطير" وشرعت منذ مدة في كتابة رواية ثامنة، بينما كتبت أربعة مجموعات قصصية هي "عرب العطيات" و"أحلام منسية" و"التي هي أحزن" و"حكايات الحب الأول" وهناك خامسة في الطريق، وهناك دراسة بعنوان "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية" وأخرى نقدية هي "بهجة الحكايا: على خطى نجيب محفوظ". ظني أن الأدب هو الأبقى، لذا أنحاز إليه بكل كياني، وأعطيه من وقتي الكثير والكثير، دون أن أتخلى عن دوري في الحياة العامة، رغم أنه يحدث جلبة ثير غبار كثيف يغطي أمام أعين البعض على كتاباتي الأدبية أو هكذا يريدون، ويجلب أحيانا عليَّ متاعب من كتاب ونقاد يختلفون معي في توجهي السياسي، فيعاقبونني بهذا في حديثهم أو تقييمهم لأعمالي الروائية والقصصية، سواء أفصحوا عن ذلك أو كتموه، وإن كنت لا أعدم كثيرين من العدول الذي يحتفون بأعمالي الإبداعية، فيتحدثون ويكتبون عنها، وهم غاية في الاقتناع والامتنان. ---------------- النص| رعاة ضالون وخراف مهتدية (مقطع من رواية السلفي) وفى يوم مرض العم يوسف، وخرجنا بالقطيع نحو الخلاء. كان أسعد إلى جانب الكبش الكبير في المقدمة، ونحن في الخلف نهشّ على الشاردة والتائهة والكسولة، وكنا نسير فوق جسر عال، وننظر إلى البركة الآسنة الممتدة تحت أعيننا والبوص الواقف على جنباتها يدارى دجاج الماء والشرشير. وفجأة جفل الخروف القائد حين وقعت عيناه على سرب من الشرشير متكوّم بعضه فوق بعض، فظنه ذئبا أبضا، ووجدناه من الهلع يرمى بجسده من فوق المنحدر، باتجاه السرب، وفى اللحظة نفسها كان أسعد يسابقه نحو الهاوية، ومن ورائه كل القطيع. وعدنا، يا ولدى، في المساء لنجد العم "يوسف"ينتظرنا على باب القرية، متوكئا على عصاه، وفى عينيه ألم. كان يسعل بشدة، يهتز لها جسده كله، ثم يتكلم بكلمات تخرج كصفير حاد، ونحن ننصت إليه. قال لنا يومنا إن الراعي الصالح لا يهمل غنمه. وأخذ أسعد من يده وداس عليها وقال له: - سأحكى لك حكاية الخروف الضال. وأنصتنا إليه بكل كياننا، فلما انتهى سألته أنا:أين تعلمت هذا يا عم "يوسف"؟ ابتسم، وسعل من جديد، وقال:حكاها لنا القس بكنيسة العذراء في الزمان الأول. لكننا لم نر العم "يوسف" يذهب إلى الكنيسة أبدا. وإن كنا رأينا الكنيسة معه طيلة الوقت. يتوه قليلا وهو يدس براد الشاي في الجمر الصافي، ثم يقول لنا:من يكذب منكم أو يسرق أو يقتل أو يسب صاحبه أو يهمل غنمه ستكويه هذه النار يوم الدينونة. ثم تتساقط قطرات من عينيه، يمد طرف كوفيته العريضة ويمسحها، ويقول: الله يحبنا، ولا يريد أن يعذبنا، لكننا نحن الذين نعذب أنفسنا. ويمد عينيه ليتابع القطيع وهو لاهٍ في المرعى، ويصب الشاي الأسود في كوب صغير من "الصاج" ويشفط رشفة عميقة ويتابع:لا تضربوا الغنم بقسوة، هشوا عليها من بعيد، ولا تجعلوا أحدًا في هذه الحياة يتألم بعملكم حتى لو كان كبشًا نطيحًا. كان يختار أرضًا بورًا للنار التى يوقدها، لم نره يوما يضع الحطب فوق بقعة خضراء، حتى لو كانت من الحشائش الضارة، أو هكذا نسميها نحن، لأنها تنهب غذاء الزرع الذى نزرعه فتتركه هشًّا مصفرًّا. يرمى بصره حول القطيع النائم أو الهائم حتى يجد بقعة قاحلة، فيمشى إليها، ملفوفا في ذهب شمس العصاري الحزينة، وينظر إلى من كان عليه الدور في جمع الحطب، فيرمى بحمولته الضئيلة، ويجلس العم يوسف إلى جانبها، ويدس بين السيقان الدقيقة الجافة بعض القش، ويمد يده إلى جيبه، ويخرج علبة الثقاب، يلتقط أحدها ويشعله، ويمده إلى قلب الراكية، وهو يتمتم "يا ربنا حرِّم أجسامنا عليها". وحين نسأله:لمن تدعو ربك يا عمنا؟ يبتسم ويقول:لنا جميعا. وذات مرة ضجر ولد منا من المشي وراء العم يوسف وهو يبحث عن بقعة قاحلة، وقال:لازم وجع القلب، النار توقد في أى مكان. وتوقف العم عندما سمع كلامه، والتفت إليه، وكنا جميعا نمشى خلفهما، واعتقدنا أنه سيصفعه على وجهه، لكنه وضع يده على كتفه، وقال له:لا يجب أن تؤذى روحًا حتى لو كانت نبتة لقيطة حمل الريح بذرتها. مثل هذا الرجل الطيب تراه أنت يا ولدى كافرًا، وتقول بملء فيك: "سيدخل النار حتمًا"، وكأن الأمر قد صار بيدك. وحين كنت أجادلك في هذا وأشكو، كنت تأتيني بآيات قرأتها، أو قرأها أحد لك، على عجل، وتقول في غضب: إنما هو حكم الله. وتتذكر أنني كنت أسألك:من أين عرفت؟ آيات القرآن. ولما أقول لك:لا تقرأ الآيات بظاهرها، وهناك آيات أخرى تبين نقيض حكمك القاسي. تهز رأسك وتبتسم، وكأنك تسخر من أبيك، وترد في ثقة غريبة:هذه آيات منسوخة. ولما أرفض ما تقول، تبتعد عنى، معتقدًا في جهلي وربما فُسوقي أو حتى كُفرى، وتقول: هذا كلام الشيخ، وهو يعرف أكثر. تمشى وراء شيخك أعمى، كالخروف الضال. تمشى كما كان يمشى أسعد في الزمان الأول. شيخك يردد كالببغاء كلامًا مسجوعًا وراء شيوخ قدامى، عاشوا في القرون الغابرة، جاوبوا عن أسئلة زمانهم ثم تدثروا بالحصى، وصمتوا إلى الأبد، لكن ما قالوه عن أيامهم صار معصومًا في أيامنا. اشتغل الوراقون والخطاطون، وامتلأت الأرفف بالكلام، وصارت إجاباتهم القديمة ترد عن أسئلتنا الجديدة. إنها المأساة ذاتها التى كلمنا العم يوسف عنها يومًا، كان تائها وعيناه تحطان هناك عند شط النهر المسافر إلى البحر البعيد، ويقول: راعى الكنيسة يقول لنا كلاما غريبا، ويطلب منا أن نردد وراءه، أنا أغلق فمي ولا أنطق إلا بكلمة واحدة أعرف معناها هي: آمين. ---------- * عمار علي حسن. روائي كاتب وباحث في العلوم السياسية، صدر له من الروايات: "حكاية شمردل" و"جدران المدى" و"زهر الخريف" و"شجرة العابد" و"سقوط الصمت" و"السلفي" و"جبل الطير"، والمجموعات القصصية: "عرب العطيات" و"أحلام منسية" و"التي هي أحزن" و"حكايات الحب الأول" ------------- إبراهيم عبد المجيد http://almashhad.net/Articles/992661.aspx سعيد نوح http://almashhad.net/Articles/992663.aspx صبحي موسى http://almashhad.net/Articles/992666.aspx عمار علي حسن http://almashhad.net/Articles/992669.aspx ماهر مهران http://almashhad.net/Articles/992673.aspx محسن يونس http://almashhad.net/Articles/992676.asp وحيد الطويلة http://almashhad.net/Articles/992680.aspx هاني القط http://almashhad.net/Articles/992700.aspx أنهار الرواية المصرية .. ملف خاص (شهادات ونصوص ل 8 روائيين) http://almashhad.net/Articles/992649.aspx