بعد سقوط الإتحاد السوفييتي على يد " جورباتشوف " , اتبع الغرب , وأمريكا بالذات , سياسة توريط روسيا في الديون والقروض والخضوع لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد. وخلال سنوات قليلة من حكم " بوريس يلتسين " , كان الغرب قد نجح في تفكيك بنية روسيا الإقتصادية من خلال بيع القطاع العام بالرشاوي والفساد . وانهارت البنية العلمية والتكنولوجية في روسيا الاتحادية , التي شهدت أكبر عملية هجرة ونزوح لعقولها العلمية بإتجاه دول الغرب وإسرائيل !! وتفكك الجيش الروسي تماما وفقد السيطرة على فرقه العسكرية المنتشرة على مساحة واسعة من أراض الأمبراطورية السوفياتية واطرافها . وتردت الأمور الى حد عجز الدولة المركزية عن تأمين الأكل والغذاء لجنودها في المعسكرات , فزادت عمليات تهريب السلاح وبيعه من مخازن الجيش الروسي , بما فيه من اسلحة ومعلومات دقيقة , بما فيها عمليات تهريب اليورانيوم وهجرة العلماء الى بلدان اوروبية واسيوية كإيران . وهكذا حول " بوريس يلتسين " روسيا " الأمة العظيمة " الى دولة فاشلة وأكبر مصدر للعاهرات الى عواصم الخليج العربي وتل أبيب تحديدا !!! وكانت تلك فاتورة التحول الرأسمالي المتوحش والتدمير الممنهج الذي مارسه الغرب وفرضه على بلدان الإتحاد السوفييتي السابق , وعلى روسيا تحديدا , من خلال توغل رجاله وعملائه في اجهزة الحكم والدولة , ومن خلال طبقة الرأسماليين الجدد الذي ظهروا بسرعة كالنبت الشيطاني يلتهم كل شيء عظيم في امكانيات هذا البلد . نهاية بوريس يلتسين في آخر يوم من أيام عام 2000 , ظهر الرئيس الروسي " بوريس يلتسين " على شاشات التليفزيون الروسي في خطاب " درامي " يعتذر فيه للشعب الروسي عما أرتكبه من أخطاء ويطلب الصفح عن الأخفاقات التي تمت في عهده وعن الوعود التي أخذها على نفسه بإنهاض روسيا من كبوتها بعد سقوط الشيوعية . وبعد أيام قليلة أتخذ مجلس " الدوما " قرارا بعدم ملاحقة الرئيس المستقيل أو أحد من أسرته . وغادر يلتسين المسرح في غموض , كما أتي في غموض !! كان " يلتسين " , الذي تولى حكم روسيا بعد سقوط الشيوعية , قد أحاط نفسه بطبقة جديدة , نجحت في تدمير روسيا بالكامل : الدولة ..والشعب ..والمجتمع ..والجيش الروسي . كان على رأس هذه " الطبقة الجديدة " التي نشأت حول " بوريس يلتسين " : بناته وأزواج بناته ووزرائه والطبقة الرأسمالية الجديدة التي نمت بسرعة مذهلة متسلحة بالفساد والجريمة والتحالف مع منظمات ( المافيا ) التي حولت شوارع موسكو – خلال سنوات قليلة - الى شوارع للرعب والقتل والجريمة وتصفية الحسابات بين زعماء المافية , في مشاهد تُذكرنا بأفلام المافية الايطالية في شوارع شيكاغو في الثلاثينات من القرن العشرين. وكانت المفارقة المؤلمة والجارحة في الدراما الروسية .. آنذاك .. هو انهيار مستويات المعيشة بشكل متسارع خلال حقبة " يلتسين " . فحسب مركز " مستوى المعيشة " في موسكو . سقط أكثر من 79 مليون روسي تحت خط الفقر . اي نحو ( 53 % ) من سكان روسيا . بينما أتسعت .. في ذات الوقت .. الهوة بين الفقراء والأغنياء , حيث أوضحت الأرقام أن 2 % فقط من السكان يحصلون على 57 % من الثروة القومية ( !! ) . وراحت ديون روسيا ترتفع بشكل مخيف يهدد البلاد بالإفلاس , فقد بلغ الدين الخارجي ( 180 مليار دولار ) .. بينما تراوح الدين الداخلي ( 161 مليار دولار ) في نهاية عهد يلتسين . وتزامن مع هذا الحجم الكبير من الديون أشكال مختلفة من تهريب رؤوس الأموال تقوم بها الشركات والأفراد وعناصر الطبقة الجديدة وتراوحت جملة الاموال المهربة بين ( 200 و 250 مليار دولار ) . وخلال سنوات قليلة من حكم " يلتسين " أنهارت البنية التحتية والخدمية في روسيا .. وانهارت معها مؤسساتها العلمية العريقة . وأدى انهيار الموسم الزراعي عام 1998 الى الإستيراد الواسع للمواد الغذائية .. ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية , تصل واردات روسيا من المحاصيل حوالي 75 % من جملة إنتاجها الزراعي . وترك " الروبل " .. عملة روسيا الوطنية .. مكانه للدولار الذي أصبح آداة للتعامل في السوق المحلي الداخلي . حتى متوسط حياة الانسان الروسي انخفض ليصبح حوالي 55 سنة في المتوسط لينافس البلاد الفقيرة في أفريقيا الصحراوية , مقارنة بمتوسط عمر 74 سنة في كوبا أو 72 في الصين . وكلها دلالات على تدهور الوضع الصحي والعلمي والإقتصادي الذي وصلت له روسيا .. بعد اقل من عشر سنين فقط على انهيار الدولة السوفياتية . ( روسيا على حافة الإنهيار , فردريك كليرمو , اللومند ديبلوماتيك , مارس 1999 ) . تجربة فلادمير بوتين لم تكن تجربة بوتين في استعادة النهضة الروسية , تجربة معقدة أو سرا لا يمكن الكشف عنه .ببساطة : اتخذ بوتين , ومنذ اللحظة الأولى , قرارا "سياديا " بإحياء دور الدولة الروسية المركزية .. بحيث تكون قادرة على التدخل في كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية . أي إحياء مفهوم الدولة التدخلية " Etat interventioniste " , ضاربا عرض الحائط بكل توجيهات وضغوط المنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركاء التجاريين في أوروبا وأمريكا . فعلى الرغم من حاجة روسيا الماسة لرؤوس الأموال , ورغم اتساع الهوة التكنولوجية بينها وبين الدول الصناعية الكبرى , ورغم تدهور البنية التحتية ومستويات المعيشة , قرر فلادمير بوتين أن يخوض مغامرته الكبرى من أجل إنهاض روسيا مرة أخرى على قدميها كقوة اقتصادية وسياسية محترمة ومقدرة في محيطها الجيوسياسي , وفي أقل من ست سنوات كما يقول الإقتصادي المعروف " جاك سابير " . فقد كان عام 2006 بداية تحول استراتيجي في مسار روسيا . ومع بداية عام 2007 كان الإقتصاد الروسي يعلن بداية انتصاره على الفشل الذي حاق به خلال حقبة التسعينات . فقد بلغ معدل النمو حوالي 6% سنويا وارتفع الناتج الإجمالي الكلي . واستطاعت روسيا أن تحقق قفزات مذهلة بفضل أمكانياتها الطبيعية المختزنة وثرواتها الطبيعية من الغاز والبترول والزراعة فضلا عن صادراتها من السلاح . وهكذا أنطلق بوتين في مهمة تحديث روسيا وتطوير روسيا واستعادة دورها , الى الحد الذي بدأ يقلق القوى الأجنبية وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي أطلق وزير دفاعها آنذاك " روبرت جيتس " تصريحه الشهير : " ان فلاديمير بوتين في طريقه إلى اعادة روسيا كقوة عظمى واستعادة كرامتها الوطنية " ( روسيا فلاديمير بوتين , اللومند ديبلوماتيك , فبراير 2007 , جان ماري شوفييه ) . وكانت انطلاقة " بوتين " معتمدة في الأساس على دعم قطاعات واسعة من الشعب الروسي . فقد كانت استفتاءات الرأي تعطي مؤشرات مؤكدة عن تمتعه بتأييد 70 الى 80 % من الشعب الروسي , خصوصا من الطبقة المتوسطة والفئات العليا من العمال والموظفين . وقد نجح " بوتين " خلال السنوات الخمس الأولى أن يعود بالقدرة الشرائية للمواطن الروسي , الى حوالي 80 % من المستوى الذي كانت موجودة عليه عام 1989 ( قبل سقوط الاتحاد السوفييتي ) . كما استطاع أن يرتفع بمعدل الإستهلاك الى 167 % ووصل حجم الإستثمارات الى حوالي 20% من الناتج الإجمالي الكلي . بوتين ورجال الأعمال والمال الأمر الغريب , والمدهش في الوقت ذاته , أن بوتين لم يلجأ خلال سنواته الأولى في الحكم الى أي تأميمات للقطاعات الإقتصادية التي تم خصخصتها , بالفساد , خلال حكم " يلتسين " . بل لم يقترب من رجال الأعمال الذين خلقتهم مرحلة التحول الرأسمالي المتوحشة خلال حقبة التسعينات . بالمقابل كان حازما وحاسما في مواجهة رجال الأعمال الذين ب أرتبطوا بمنظمات الجريمة " المافيا " أو أولئك الذين كان لديهم طموحات سياسية قوية أو معارضة لتوجهاته لسياسته ( !! ) . لقد كان عام 2003 هو نقطة التحول الحقيقية في مشروع بوتين , ففي هذا العام تحديدا , صرح بوتين للمقربين منه أنه لا يمكن أن يترك ثروة روسيا من الغاز والبترول والمعادن في يد رجال الأعمال والشركات الخاصة التي حصدت بفضل الفساد والرشوة على المليارات خلال حقبة يلتسين . وقد بدأ بوتين مشروعه لأنهاض روسيا بو ضع يد الدولة على ثرواتها المعدنية . ثم قرر أن ويولي وجهه تجاه دول وأسواق أخرى مناسبة لبيع الغاز والبترول الروسي لا سيما الصين والهند ودول العالم الإسلامي على حساب السوق العالمي مع امريكا وأوروبا ودول حلف الأطلسي . لقد بدا واضحا أن بوتين قد أدار ظهره لطبقة رجال الأعمال من الرأسماليين الروس بمصالحهم المركبة والمعقدة والملتبسة مع الشركات العالمية وأجهزة المخابرات العالمية . وبدأت رموز هذه الطبقة في مهاجمة سياسة بوتين الاقتصادية والتخلي عن " دعمه , بل ومهاجمته . وكانت استقالة " أندراي إليارانوف " مستشار بوتين في نهاية عام 2005 أحد تجليات المعارضة التي يواجهها بوتين من طبقة رجال الأعمال . وكانت الحجة التي ترفعها هذه الطبقة الرأسمالية لتقويض مشروع " بوتين " هو الإعتداء على " الحرية " . فقد صرح " إلياروف " أن سبب استقالته هو : "أن روسيا أصبحت بلدا آخر .. انها لم تعد بلدا حرا " . ولم يطل الأمر بالولاياتالمتحدةالامريكية لتبدأ هجومها على روسيا والرئيس بوتين . ففي قمة " فالنيوس " في مايو 2006 بدت القمة التي الولاياتالمتحدةالأمريكية وكأنها مكرسة فقط للهجوم على روسيا .. وهاجم نائب الرئيس الأمريكي " ديك شيني في خطابه " روسيا " متهما " بوتين " بالإنعطاف نحو الديكتاتورية " . ورغم ذلك لم يلق " بوتين " بالا للتهديدات الامريكية ولم يعرها أي اهتمام , بل تحداها بإجراءات مضادة ساهمت في افشال المساعي الغربية بإعادة روسيا لوضعية الانكسار . خاتمة ان الدرس الذي قد يساعد مصر من دراسة " التجربة الروسية " للتعامل العاجل مع أزمتها الحالية , شيئان : الأول : ضرورة وضع الدولة على مقدراتها التعدينية , المحجرية والمنجمية . طبقا لكلام زميلنا ا الاستاذ لدكتور " يحيى القزاز " , عالم الجيولوجيا المعروف , أن الدولة لا تحصل إلا على مبلغ 21 مليون جنيه فقط من حصيلة بيع أربع خامات فقط , بينما تحصل المحليات على سبعة مليارات جنيه سنويا طبقا للقانون 86 لسنة 1956 . وهو القانون الذي بح صوت الحركة الوطنية لتغييره بما يضمن مصالح الدولة والشعب . وقد بح صوت الدكتور " يحيى القزاز " في التنبيه أن سيطرة الدولة على ثروتها التعدينية سيوفر للدولة 24 مليار جنيه سنويا , بشرط تعديل القانون 86 لسنة 1956 .
ثانيا : مواجهة الفساد الرأسمالي : كان تجربة روسيا وبوتين حاسمة في مواجهة الفساد الذي عشش وساد في اركان الدولة الروسية خلال الحقبة الشيوعية , وحقبة التحول الرأسمالي المتوحش التي تلتها . وفي دراسة حديثة للخبير الإقتصادي الوطني " أحمد السيد النجار " في جريدة الأهرام بتاريخ ( 18 أغسطس 2014 ) يقدر ان جملة ما يمكن أن تحصل عليه الدولة المصرية من اعادة النظر في اسعار الأراضي الزراعية التي حصل عليها رجال نظام مبارك من سياسيين ورجال أعمال , بأسعار رمزية , ثم استخدموها لبناء المنتجعات السكنية والمساكن الفاخرة بالمخالفة لشروط التعاقد . كذلك جملة الاراضي الزراعية التي تم البناء عليها منذ عام 2007 وتبلغ مساحتها حوالي نصف مليون فدان ( !! ) . فلو تم فرض غرامات بقيمة 300 جنيه على المتر , فان العائد من تلك الغرامات يمكن أن يوفر للدولة أكثر من 600 مليار جنيه ( ستمائة مليار جنيه ) . حتى لو تم تقسيطها على أربع أو خمس سنوات . ان أزمة مصر الراهنة تحتاج ارادة سياسية ماضية , لا تعرف التردد أو التهاون . وتحتاج لسياسات عاجلة و " طارئة " , لا تقبل التأجيل أو المراوحة لتطبيق القانون على كل مخالف . وستحصل الدولة والشعب على حقهما من كل متعد ومخالف وفاسد . ودون حاجة للاستدانة من الخارج أو إجراءات تأميمات او مصادرات عشوائية . اضغط هنا لمشاهدة الملف بالحجم الكامل