كنت أعيش فيها رغم المسافات السحيقة التي تفصلني عنها، عشش هواها في قلبي وحلقت أحلامي عصافير بيضاء عذبة التغريد فوق نيلها و أهراماتها وحدائق الأدب والثقافة فيها ، وحدها دون كل عواصم العالم من اشتهيتها واشتقت لها وحلمت بها و سعيت سعيا حثيثا لتحقيق غاية الوصول اليها، إنهاأم الدنيا و سرها الفواح. قبل أن يلفت قائد الطائرة الجزائرية ركابها لمنظر الأهرامات الشامخة في سماء القاهرة كنت لاحظت الثلاثي القرمزي المنتصب في جلد مهيب و كبرياء أبدي لايوصف، لكني لم اشعر تجاه الأهرامات بذات الشعور الدافئ المربك الذي خالجني من فرط سحر السعادة ونحن نحلق عن قرب فوق النيل، هنا الخصب و ماء الجنة المنساب رعاية الخالق القدير و دفق عطائه لهذه الأرض الطيبة، نهر لا يشيخ أبدايسقي بلدا طاعنا في التاريخ موغل في خارطة الكون العظيم. خص الله مصر بالذكر دون غيرها من أصقاع الدنيا في محكم تنزيله ، لم أشعر بالخوف أثناء رحلتي إليها رغم فوبيا الطيران التي تستفحل بي،وقد كنت استحضرت الآية الكريمة " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، لهذا تركت العنان لمخيلتي ترقب نيل مصر و حاضرتها من على علو شاهق لم أعتد عناده، كان النيل حور في عين رقراقة، خلاب يتوسط المدينة التي أعرف قبل أنأدخلها أنها تضم أهم عجائب الدنيا و جزيل أسراراها. عند عتبة الخروج من المطار وجدت اسمرا فرعونيا بقامة مديدة يلوح بيده، معبرا عن معرفته الزائرة المجهولة، ضحكت سعادة، فقد وفى بوعده وجسّد إصراراه انتظاري، شعرت بالزهو الخجل، فنحن كشعب و قضية شبه مجهولون تماما في هذه المدينة التي تضئ العالم العربي كله، فكيف أجد من ينتظرني بمدخلها في أول زيارة لي ؟ بادرني مضيفي : هل انتبهت لإشراق القاهرة و تفتح الورد لقدومك ؟ ضحكنا معا من إطراءه و مجاملته العذبة ، كان الموسم ربيعا و مصر تستعد لعيدها الوطني البديع " شم النسيم " والحدائق غناء جميعها والورود تشرئب بتلاتها العبقة تحي الساكنة والزوار الكثر، كان إطراءا جميلا منه لكني اكتشفت بوقت وجيز أن المصريين يغدقون على زوارهم بكلمات الحبور والمرح، فالناس في مصر اعتادوا كلمات التحبب والتودد حتى باتت ترد بسلاسة ضمن أي حديث من أي نوع كان. في بلدي أو لنقل في منفاي، و ضمن مجتمعاتنا الصغيرة الضيقة لا نستقبل عبارات الترحاب الجميلة هذه في كل مكان، لم نعتد أبدا الباعة أو موظفي الخدمات العامة بشوشي القسمات، تعودنا الجدية المفرطة في التعاملات الإنسانية العامة و اليومية ، ربما جذور الإنسان البدوي فينا التي نسجتها برعونة وقسوة حياة الرعي والترحال لا تزال تضع بصماتها الخشنة في حياتنا رغم تولي زمن البداوة منذ عقود. لم أكن و أناأجوب شوارع مصر لأول مرة أشعر بالغربة وإن كانت السعادة تعقد لساني ، فكرت أن مصر قد تكون حجرا صغيرا جدا سقط من بين أوراق شجر الجنة التي نزل آدم عليه السلام يكتسي بها أثناء رحلته الإنسانيةالأولى من السماء نحو الأرض ، ربما وقعت مصر حجرا صغيرا كبر وترسب وتضخم وأصبح هذه الأرض التي مر بها بعض أنبياء الله و رسله و ذكرها الله مرات عديدة دون غيرها من البلدان في قرآن نبيه محمد علي الصلاة و السلام، لا شك أن لمصر قدسية تربط إليها أفئدة ملايين البشر عبر امتداد الأرض، وأنا لست أولهم لكني حتما من بينهم. من مبنى روزا اليوسف العبق بعطر التاريخ والفن والسياسة، والمسيج بروح الأدب الهادف المؤرخ للمراحل المتعاقبة إلى بوابات الأهرام الشامخة شموخ الإعلام العربي الناضج المؤسس لثورة الفكر في الوطن العربي، إلى مدينة 6 أكتوبرالإعلامية حيث المدينة التي يتنفس أهلها شغف صورة مصر المشرقة ورائحتها الزكية و يعتنقون جميعا عقيدة حماية مكانتها بين شعوب العالم وحسن تصديرها، ما بين مقهى ريش الضاج بذكريات زواج السياسة و الأدب وأحاديث الثورة إلى مكتبة الحاج مدبولي حيث الإشعاع المكتبي الخلاق،ما بين كل هذا وشوارع القاهرة وميادينها المرصعة بتماثيل أعلام خلدوا اسمها وحضورها مشيت واستنشقت روح مصر التي لا تدري أنها تدب بين جوانحي منذ عرفت القراءة والكتابة ومنذ وجدتني مولعة - عن فطرة - بالمطالعة. بالمتحف الكبير جدا يمكن لأي زائر أن يعرف قيمة مصر وسر الفرق بينها وبين باقي الدول العربية خاصة، هناك سيجد المرء نفسه في حوار مفتوح مع تاريخ أقربه سبعة آلاف عام، وسيقف مدهوشا أمام إنسان فرعوني عظيم بلغ من الرقي الفكري والحضاري حدا لا يضاهى، ومرتبة من العلم أوصلته لئن يخلد بالمعنى الحرفي للخلود، لا أسطورة مكتوبة ولا تمثالا منحوتا بل جسدا محنطا بعيون شاخصة وهوية غير مجهولة، إنها المومياء اللغز العلمي المحير، ومن من الذين وقفوا عند جسد أحد الفراعنة الحكام الذين صنعوا تاريخ مصر الممتد عبر العصور الطويلة لم يقف مدهوشا محتارا أمام عظمة الإنسان المصري هذا وسره الكبير؟ زرت مصر منتصف أبريل من السنة الجارية، في أيام تُروج فيها قنوات إعلامية عربية معروفة لاضطرابات سياسية كبيرة، وتستعرض بالأدلة حسب زعمها غليانا مدنيا وأوضاعا أمنية خطرة، لكني وأنا أتجول في شوارع القاهرة - برفقة مضيفي أحيانا و أحيانا كثيرة بمفردي - ليلا و نهارا لم ألحظ ما يثير الريبة أو لنقل ما يؤكد - ولو نسبيا - صحة ما تُروجه قنوات التحريض على التشرذم و انغماس الشعوب في الفوضى، كانت مصر بقوة الشعب ديمغرافيا، وإرادته الحفاظ على مكانتها بين البلدان وبقوة مؤسساتها تصهر في شوارعها التاريخية كل مظاهر التذمر و يذيب نيلها العذب غضب الفرقاء "المتحدين " عند كل إطلالة نحوه . رأيت مصر - هكذا كما عرفتها بدوافع شغفي بها - بلدا شامخا للأزل رغم الصعاب و شعب ملهم, و تاريخ مشرف ، حافل بالملاحم، و وجدتني أردد بيني وبين نفسي عفويا: مصر التي في خاطري وفي دمي، ليس أبناءها الأصليين وحدهم من تحتل مصر خواطرهم وتسبح في دمائهم، بل هناك الملايين غيرهم مثلهم تماما. ------------------ شاعرة من الصحراء الغربية النانا رشيد النانا رشيد