نحن الذين ضربتنا الديمقراطية، في أزهى عصورها المزعومة، بهراوتها الغليظة، وأحالتنا في بواكير ثلاثينياتنا على الاستيداع المهني بعيداً من جلالتها، بتنا نعرفها كما لم يعرفها غيرنا، بل وكما لم نعرفها نحن من قبل. هي ليس كمثلها شيء... سنوات عشر أو أكثر أَرَقْنَا، بعيداً من بلاطها، آلاف اللترات من الحبر الأسود والأزرق والأحمر على ورق ليس كأوراقها... خاطب القلم أناسًا ليسوا كمريديها وحوارييها جال الفكر بكل وادٍ صعودًا وهبوطًا..شرقًا وغربًا. ولكن لم تكن الأفكار أبدًا كأفكارها.. لا تغلي فيها نفس الدماء ولا تصطك نفس النيران. هي سيدة الكتابات، ليست شعرًا ولا قصًا ولا حكيًا منمقًا. هي كل ذلك وفوق ذلك.. بكل عنفوانها وصدقها وعفويتها وشجاعتها واقترابها من تراب الأرض.. وبالرغم من كل نزقها وجموحها وانفعالها وغرورها. تغيم الرؤية ربما تشرد الفكرة جائز ولكن لا تغيب البوصلة أبدًا.. تشير دومًا إلى هذا الوطن وهؤلاء الناس. الذين مسهم طائف منها يدرون جيداً معنى أن تمر بك الأحداث الجسام تعصف وتهدر وتهدد وأنت مكبل، صامت مقطوعٌ لسان قلمك.. مطويةٌ صحفك. وكم مر من هذه الأحداث والوضع هكذا. حتى أشرق الفجر الذي ليس كمثله فجر، وقام سيد الأحداث، وزلزلت الأرض زلزالها.. حينها انطلق القول، وصدح الرأي. وخرج الفكر عن كل عقال واستبشرنا.... ثم جفلنا...ثم وجلنا. *** فالمشهد الذي بدأ مبهرًا بكل تفاصيله وبواعثه وانطلاقته وتطوراته وزخمه وذروته اللا نهائية كأنه فُصِّل في السماء بخيوط الخير والنور والإيمان، انقلب على كافة الأصعدة وبكل مفرداته جحيميًا. ساسة مغرقون في اللا معقول واللا قدرة واللا وعي واللا حسم. ومتثاقفون وضعوا "أَنَوَاتهم" المتورمة، ومصالحهم المستترة في كفة الميزان، ووقفوا ينظرون ويُنظِّرون، بينما تطيح الكفة الأخرى في الهواء ومعها صالح البلاد والعباد. وثائرون رأوا مياه الثورة تتسرب من بين أصابعهم، فخلطوا عملاً صالحاً بآخر غير صالح، وتمترسوا وراء الأيام الثمانية عشر التي، على روعتها، لا تكفي وحدها كأوراق اعتماد لامتلاك القرار وإنفاذ الرأي. وإعلام أغلبه انشقت عنه الأرض يتنفس الفتنة، عليها يحيا ويقتات غير آبه بضحاياه الذين يدفعهم إلى الهلاك صباحً،ا ويقيم لهم سرادقات العزاء مساءً. وشعب طائفة منه مشوشة علَّمها الميراث الأسود للعقود الحالكة السواد أن سياسة "اخطف واجري" هي الأضمن والأبقى، وأن ما لن تتحصل عليه في زمن الهوجة لن تشم ريحه أبداً..طائفة تطلب في زمن عز فيه المطلوب... تريد أن تقتص حقوقها ممن سرقها وبدد مالها...تمسك بتلابيب حكومات خالية الوفاض فتزيدهم عجزاً على عجزهم. *** مشهد كارثي بامتياز. أخطر ما فيه أنه كشف عن حقيقة شديدة الإيلام... درنا حولها مراراً وتكراراً، كشفنا بعض تجلياتها في مناسبات هنا أو هناك لكنها لم تتبد بهذه الفجاجة إلا مؤخراً؛ لقد فقدت مصر أو كادت كنزها الاستراتيجي. ولم يكن كنز مصر يوماً تراثاً أو أموالاً، كان كنزها هم النابهون من أبنائها. كنا نفاخر الدنيا ونصمد أمام من يعيرنا برقة الحال بعظمة الرجال. فما بالنا نتلفت فلا نجد إلا نذرًا يسيرًا من هذا الصنف، يكاد لقلته أن يتوارى وراء جحافل المتبجحين بغير علم. هل هذه مبالغة في السوداوية وتعريض بأقدار الناس؟ لماذا إذن لا تجد قضية استعادة الأموال المنهوبة من يعرف، مجرد معرفة، بالإجراءات ولا أقول بالحيل والدهاليز والمناورات القانونية اللازمة على أي حال للمضي على الطريق الصحيح. ولماذا مسارنا الاقتصادي بهذا البؤس حتى بعد أن انزاح الناهبون، ولماذا الأداء البرلماني أضحوكة، يتلهى بتوافه الأمور ولا يضرب فوق رأس المسمار كما يقول الغربيون؟ ولماذا الإعلام جعجعة بلا طحن؟ ولماذا نزرع في كل قرار سياسي بذور تفجيره وندور في حلقات مفرغة لا تنكسر إلا بعد دفع الثمن فادحاً من الدماء التي تراق بلا ثمن ولا عائد؟ ولماذا الأمن ولماذا الغاز وألف لماذا. *** الأمر مفزع والذين يعولون على الانتخابات الرئاسية لتضع البلاد على جادة الصواب مؤرقون بالصورة الهزلية التي تسير بها إلى الآن. أهم حدث سياسي في المنطقة بلا مبالغة، يدار بعشوائية؛ الأبواب على مصاريعها مفتحة بلا ضوابط ولا معايير وكأننا نتلذذ بتصدير صورة مزرية لأهم مجريات أمورنا... هواة ويائسون ومهرجون وأفاقون يقطعون الطريق على الجادين، ويُشرزِّمون الأصوات، ويُقزِّمون تجربة سياسية يتوقف عليها- بلا مبالغة مرة أخرى- مصير ومسار المستقبل السياسي في المنطقة. *** هل نستفيق والمشهد هكذا؟