طرح إعلان حكومة جوبا اليوم السبت بشأن تعطل مباحثات السلام بين حركة التمرد وحكومة جنوب السودان في اديس ابابا ، بسبب تجدد المعارك في مدينة ملكال الإستراتيجية ، تساؤلات مشتعلة حول مسارات الصراع وسيناريوهات الحل المتاحة ، وإمكانية التوصل إلى تفاهمات توقف تمدد النزاع الذى ينذر فى حال إستمراره بحرب أهلية شاملة . وفيما تسلك إرادة الحرب دروبها المعتادة بين هجوم من المتمردين الذين يقودهم رياك مشار ورد من الجيس الحكومى ، تتعالى أصوات الإتهامات بين الجانبين بخرق التفاهمات ومحاولات إشعال الصراع ، الذى أودى بحياة الآلاف من الجانبين ، حيث شن المتمردون حملة واسعة يوم الثلاثاء الماضى ضد القوات الحكومية في ملكال ،ردا على ما إعتبروه استفزازات الجيش ، فى وقت أكدت القوات الحكومية أنها تحضر لهجوم مضاد. ووفقا لما أعلنه ماوين ماكول المتحدث باسم حكومة جنوب السودان فأن حكومته تنتظر تقرير الوسطاء الإقليميين في أزمة جنوب السودان ، الذي سيحدد الطرف الذي بادر بكسر الاتفاق الهش لوقف إطلاق النار الموقع في 23 يناير باديس ابابا.، وهو ما يمكن أن يدلل على مدى إنعدام الثقة بين طرفى الصراع ، ومحاولة كل طرف أن يلقى باللائمة على الآخر فى إستمرار القتال بين شركاء الأمس القريب وتمدده إلى مختلف مناطق الدولة الوليدة . وإذا كانت الصراعات السياسية تعد من الأمور الطبيعية والمشروعة، وكذلك التحالفات السياسية وتقلباتها وفق مبدأ " لا عداوة دائمة ولا صداقة قائمة " ، إلا أن المراقب لأوضاع جنوب السودان يمكنه تلمس ثلاث إشكاليات أساسية تؤثر فى رسم ملامح الصراع وسيناريوهات نمدده أو التوصل إلى حلول له ، أولهما عسكرة الصراع، وثانيها استثارة النعرات القبلية في الصراع ، أما الثالثة وهى الأخطر فهى المصالح الدولية والإقليمية التى تنذر بتحول النزاع إلى حرب أهلية قد تمتد إلى دول الجوار . وتعود جذور الأزمة الحالية إلى سلسلة من الأخطاء المركبة ، بدأت بالخلاف بين قيادات الحركة الشعبية التي كانت تريد استمرار الحرب مع الشمال بالوكالة ، وبين العناصر الواقعية التي تريد الالتفات إلى مشاكل الجنوب وأولويات البناء والتنمية.، حيث انحاز الرئيس الحالى سلفا كير ميارديت للمعسكر الثاني، ولكن ليس قبل أن يتورط بدعم المعسكر الأول في صراع من نوع آخر ضد نائبه رياك مشار والمطالبين بالتغيير والإصلاح، وهو صراع اكتسب أبعاداً قبلية ، وفي الفترة الأخيرة قرر الطرفان التحالف ضد سلفا كير رغم تضارب أجنداتهما، فتفجرت الأزمة الأخيرة. لذا يبدو من الخطأ اعتبار الصراع القائم صراعا طائفيا ، حيث تؤشر الحقائق على الأرض إلى أن الصراع سياسي بإمتيار وليس طائفيا أو قبليا كما هو الحال في معظم الدول الإفريقية التى تشهد صراعات مسلحة ، حيث أن من الخطورة بمكان اختزال الصراع في جنوب السوادن على أنه صراع قبلي أو مناطقى ، لما سيجلبه من نتائج كارثية لتأكيده على الطائفية بدلاً من حل المشاكل السياسية. وعلى الرغم من الحضور الواضح لإستثارة النعرات القبلية فى تأجيج الصراع بإعتبارها أحد الإشكاليات الرئيسية فى القضية ، إلا أن المخاطر بشأن إختصار الأزمة فى صراع قبلى تؤجج المخاوف من تحول الصراع بين رئيس الدولة سلفاكير ونائبه السابق رياك مشار إلى حرب أهلية بين قبيلتي الدينكا والنوير، وهو ما يعيد إلى الأذهان مأساة الحرب بين قبيلتى الهوتو والتوتسى فى رواندا. ولعل ما يعزز هذه المخاوف ، طبيعة التكوين القبلي للدولة الوليدة التى لم تترسخ مؤسساتها الدستورية بعد انفصالها عن الدولة الأم "السودان" ، فسلفاكير يستمد قوته من سطوة قبيلة "الدينكا" التي ينتمي إليها ، والتى يقدر عدد أفرادها بثلاثة ملايين نسمة وتعتبر أكبر قبائل البلاد ، بينما يستند مشار على دعم قبيلته " النوير" وهى ثاني أكبر قبائل جنوب السودان. وتوجد في جنوب السودان عشرات القبائل، غير أنّها تعود في أصولها إلى ثلاث مجموعاتٍ رئيسة ، أكبرها المجموعة النيلية التي تمثّل 65% من مجموع السكان ، والتي تضمّ القبائل ذات النفوذ السياسي الأكبر؛ فقبائل الدينكا تمثّل ما نسبته 40% من المجموعة النيلية، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس سلفا كير. فيما تأتي قبيلة النوير في المرتبة الثانية بما نسبته نحو 20%، وهي القبيلة التي ينتمي إليها رياك مشار نائب الرئيس المقال ، ثمّ تأتي قبيلة الشلك بنسبة 5%، وهي القبيلة التي ينتمي إليها كلّ من باقان أموم الأمين العامّ للحركة الشعبية، ولام أكول أجاوين، أحد قياداتها التاريخية ، الذى كان قد اختلف مع جون جارانج وأصبح حليفًا للخرطوم ، وظلّ هناك حتى بعد أن انفصلت الحركة الشعبية في جنوب السودان ، ولم يعد إلى جوبا إلا مؤخرًا بعد أن نال تطمينات جنوبية. إلا أن تتبع خيوط الأزمة يؤكد طبيعة الصراع السياسية التى بدأت تأخذ شكلا قبليا بعد تطورات متلاحقة ، ففي يوليو من العام الماضى 2013 أعفى الرئيس سلفا كير نائبه رياك مشار وجميع أعضاء الحكومة، في أكبر تغيير وزاري شهده جنوب السودان منذ استقلاله قبل نحو عامين ، كما أحال الأمين العامّ للحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم في جمهورية جنوب السودان، باقان أموم إلى التحقيق، في قرارٍ آخر منفصلٍ،عقب تصريحات علنية انتقد فيها الأخير أداء الحكومة. وقد جاءت تلك القرارات نتيجة لصراعٍ خفيٍّ ظلّ يتصاعد بين قيادات "الحركة الشعبية لتحرير السودان" منذ يوليو 2005، عقب مقتل الزعيم التاريخي للحركة جون جارانج في حادث تحطّم مروحية غامض ، حيث تفجّرت النزاعات بين القيادات الجنوبية، بصورة علنية، بعد أن أعلن رياك مشار، عقب إعفائه من منصبه، أنّه ينوي الترشُّح لمنصب الرئيس في الانتخابات المزمع إجراؤها في 2015. وأعلن عددٌ من المسؤولين السابقين الذين أطاحهم الرئيس سيلفا كير؛ وعلى رأسهم باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية، ودينق ألور، وزير الدولة الأسبق لخارجية السودان قبل الانفصال، وربيكا قرنق، أرملة مؤسّس الحركة الراحل جون قرنق ، وقوفهم إلى جانب مشار بهدف منع حصول الرئيس "كير" على فترةٍ رئاسية ثانية. وفي ال 15 من ديسمبر 2013 ، أعلن الرئيس سلفا كير ميارديت، عن محاولة انقلابية، قام بها نائبه المقال رياك مشار ومجموعة من مناصريه ، حيث قاد هذا الإعلان إلى نشوب نزاع مسلّح بدأ في العاصمة جوبا ثم تمدّد، وبسرعة شديدة، إلى مدينة بور عاصمة ولاية جونجلي، وإلى مدينة بانتيو في ولاية الوحدة، حيث حقول النفط ، ثمّ ما لبث أن وصل إلى مدينة ملكال، عاصمة ولاية أعالي النيل، حيث توجد مجموعة أخرى من حقول النفط، لتدخل بذلك الجمهورية الوليدة في أتون مواجهات تتشابك فيها كلّ عناصر الصراع على السلطة والثروة، فضلًا عن الانقسامات القبلية. ويوضح مسار العلاقة بين كير ومشار أنها كانت دائما مشوبة بالشكوك ، منذ قيادة الثاني ما عرف ب"انقلاب" الناصر على قيادة الحركة الشعبية في أوائل التسعينات بالقرن الماضي ، وبعد سنوات من معارك عنيفة بين مناصريه وقوات الحركة وقع في عام 1997 اتفاقية مع الحكومة السودانية عين بموجبها نائبا للرئيس عمر البشير، حيث ساهمت قواته الى حد كبير في تأمين حقول النفط وصد هجمات "المتمردين" ، إلا أنه عاد الى صفوف الحركة الشعبية عام 2002 وتقاسمه السلطة مع كير في الفترة الانتقالية "بين عامي 2005 و2011" بعد توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام التي نصت على استفتاء شعبي أفضى الى انفصال الجنوب. أما كير الذي انضم للحركة الشعبية بعد أن كان جنديا في الجيش السوداني ، فقد ظل وفيا لمبادئ الحركة التي أصبح نائبا لقائد أركان قواتها عام 1986 ، ثم عين نائبا لقائد الحركة جون جارانج عام 1997 ، حتى تولى رئاسة الحركة بعد مقتل جارانج ثم رئاسة الدولة الوليدة عند إنفصالها منذ حوالى عامين. وسواء كان ما جرى هو محاولة انقلابية حقيقية ، أو أن الأمر يتعلق بضربة استباقية وجهها سلفاكير لمناوئيه، فإن دولة جنوب السودان تواجه حاليا وضعا مثيرا وخطيرا ، ما لم يتم تدارك الوضع قبل استفحاله خاصة فى ظل تدخل دول مجاورة لتدعم هذا الطرف أو ذاك. وإذا تتبّعنا سير المواجهات ، يبدو واضحًا أنّ حقول النفط ، وتأكيد الوجود العسكري على الأرض هما أبرز أهداف المتمرّدين؛ ففي حالة انشطار الجنوب إلى أكثر من دولة تصبح حقول النفط مرتكزًا أساسيًّا لاقتصاد الجهة التي تسيطر عليها، بخاصّة أنّ النفط هو مصدر الدخل الوحيد في جمهورية جنوب السودان ، وفي حالة التفاوض، تصبح السيطرة على حقول النفط ورقة مهمّة للحصول على تنازلات سياسية، في أيّ اتفاق يُبرم . ومن الواضح أنّ الصراع الحالي أظهر وجود مركزَي قوّة رئيسيْن في دولة الجنوب، بغضّ النظر عمّا ستخرج به المفاوضات ، ولذلك ستظلّ بنية الدولة في جنوب السودان منقسمة وفقًا لخطوط قبلية، بين قوّة عسكرية تملكها حكومة الرئيس كير، وأخرى يملكها خصومها بقيادة نائبه السابق مشار، إلا أن أيا من دول الجوار أو القوى الدولية لن يقبل الإطاحة بحكومة الرئيس سلفا كير . ومن خلال إستعراض بنود إشكاليتى " عسكرة الصراع" وإستخدام النعرات القبلية " ، تبدو الإشكالية الثالثة بإعتبارها العامل الأهم فى الصراع والمحرك الرئيسى لما سبقها من إشكاليات وهى " المصالح الدولية فى جنوب السودان" ، حيث تمثل دولة الجنوب نقطة تقاطع مصالح بين الولاياتالمتحدة، وبعض الدول الأوروبية، والصين . فبالنسبة للولايات المتحدة، يمثّل جنوب السودان أهمية خاصة من الناحية الجيواستراتيجية، خاصة بعد إنشاء القيادة العسكرية لأفريقيا "آفريكوم" ، فيما يمثّل وجود الشركات الصينية في المنطقة تحدّيًا اقتصاديًّا لنظيرتها الأمريكية التي تبدو مهتمّة بفرص الاستثمار في هذه الدولة البكر، في قطاعات الزراعة، والمعادن، والثروة الغابية وغيرها، خصوصًا وأنّ حكومة السودان قبل الانفصال، أبرمت مع الصين عقودًا طويلة الأجل قطعت عليها الطريق إلى قطاع النفط الحيوي في الجنوب. يأتى ذلك فى وقت تراقب بريطانيا مصالحها بقلق كبير ، وذلك بحكم كونها القوة الاستعمارية السابقة في السودان، وأوغندا، وكينيا ، حيث تتحرّك كلّ هذه الأطراف ومعها الشركاء الإقليميون ؛ فى محاولة لاحتواء الأوضاع في جنوب السودان، حتى لا تخرج عن نطاق السيطرة، بخاصة أنّ دول الجوار تشهد بدورها اضطرابات، مثل جمهورية الكونغو، وجمهورية أفريقيا الوسطى . وتتصاعد مخاوف القوى الدولية والإقليمية من تواصل الصراع بما يمكن أن يؤدى إلى اندلاع حرب شاملة في جنوب السودان وخروجها عن السيطرة، وهو ما يمكن أن تكون له آثار خطيرة في كلٍّ من أوغندا، وكينيا، وإثيوبيا؛ وهي دول لها حدود مشتركة مع جنوب السودان، وأصبح لها بعد الانفصال، مصالح اقتصادية متنامية معه . وفى هذا الإطار تحاول هذه الجهات الدولية والإقليمية، الضغط بكلّ ما لديها من قوة، لإعادة جنوب السودان إلى حال التوافق الداخلي والاستقرار ، ليس فقط لما يمثله الصراع من مخاطر وكوارث إنسانية وسياسية ، بل بسبب حرص هذه الأطراف على استمرار ضخّ النفط الجنوبي عبر أراضي الشمال؛ حتى لا يصبح الجنوب عبئًا وعالةً على المجتمع الدولي ، بالإضافة إلى ما شهدته أسواق النفط مؤخرا من إرتفاع كبير فى الأسعار بسبب تراجع إنتاج البلاد النفطي بمقدار الثلث ليستقر عند قرابة 170 ألف برميل يوميا في وقت سابق هذا الأسبوع ، مقارنة مع 245 ألف برميل يوميا قبل اندلاع القتال . وليس ثمة شك فى أنّ دولة جنوب السودان تواجه أخطر أزماتها الداخلية منذ ولادتها قبل عامين، إلا أن الخطر الأكبر هو إستمرار حالة الإقتتال الداخلى وإثارة النعرات القبلية والمناطقية والطائفية ، فالحلّ كان وسيبقى في دولة المواطنة متساوية في الحقوق والواجبات ، فالدولة الوليدة لا تحتاج إلى الدخول في صراع مرير وطويل يحرق الأخضر واليابس ويطيح بآمال الجنوبيين فى " إستراحة محارب " تنهى سنوات الدم والنار لتبدأ سنوات البناء .