في رواية غير منشورة جسدت شخصية مماثلة تماما لجلال عامر دون أن أتشرف بلقائه.. أحد الضباط الذين جاؤوا بنصر أكتوبر، كان بين خيارين إما أن يموت مكتئبا وهو يرى ما ضحى من أجله بالدم يتبدد أمام عينيه، فيضطر للعمل حارسا مع أحد لصوص المرحلة الذي لم يكن غير طبال في فرقة هزيلة، وإما أن يتلبسه شيطان الفكاهة فيكتب. ولكن لأنه لا يكتب إلا بشريان قلبه لا يجد صحيفة تنشر فيضطر إلى الذهاب للأسواق والمقاهي قارئا عليهم ما خطه قلمه، منتزعا الضحكات ومفجرا الأوجاع، ومع التراكم تتحول الضحكات إلى غضب مكتوم وتتحول الأوجاع إلى عزائم لا يستطيع قهرها أحد، فتولد ثورة.. ويحمله الناس على الأعناق.. ولحظة رؤيته لسلطة القهر تنهار ويقاد المستبدون من عروشهم وهم يرسفون في الأغلال يشهق شهقة فرح ويموت.. يحس لحظتها أن نصر أكتوبر قد اكتمل ومن ثم يكون قد أكمل رسالته. لم تكن في الذهن مطلقا شخصية جلال عامر، لكني حين أعيد قراءة ما كتبت ومراجعة تاريخ الرجل أحس بنوع من التناص بين الحقيقة والخيال.. فقد كان مشروع شهيد في الحرب قدر له أن يعيش ليشهد الأبطال يزاحون إلى الهامش، بينما يحتل التافهون المشهد، ثم عاد إلى طبيعته الأولى شهيدا فمات كمدا حين رأى مصريين يقتل بعضهم بعضا. كان جلال كاتبا موهوبا ومن ثم أغلقت في طريقه الأبواب حتى ظهرت المصري اليوم، فيما حصد الشهرة والجاه قبله من لا يتقنون كتابة موضوع تعبير.. ساخر عظيم مثله لم يعرفه أحد حتى سنوات قليلة مضت، فالصدق والصفاء طريق الكاتب إلى المجهول.. لكي تنجح ككاتب لا بد أن تشبه لاعب السيرك.. ترتدي حينا ثياب بهلوان لتضحك الملك وهو يفتك بالشعب.. وحينا آخر تجيد اللعب على الحبال لكي تنفذ من مسام العلاقات المتشابكة بين الثروة والسلطة، وبين السلطة ومن تتبع لها في الخارج، وبين الخارج ومن يمثلون دور المعارضة، وبين المعارضة وتجار الشعارات، وبين الشعارات وهموم الناس. كل كاتب يعرف طريقه وجمهوره، كثيرون جمهورهم شخص ومثلهم جماهيرهم شلة منتفعين، لكنه ككل الصادقين راهن على ملح الأرض.. فأبدع وتحول إلى نجم من طراز خاص حين وجد طريقا يسير عليها نحوهم، ولذلك تبكيه العيون، ويترحم عليه أشد المخالفين له، ويحس الناس أنهم فقدوا واحدا منهم، لم يتطلع يوما إلى شيء غير تحويل الأنين الصامت، والضحكات المجلجلة إلى سيف بتار. طوبى لجلال عامر ومن يسير على دربه..