القضية ليست فى قميص يوسف ، ولكنها فى إعلام يظل على استعداد لقراءة القميص على الوجهين .. ليس هناك ثمَّة مسافة بين احتساء الخمر وممارسة الزنا فى خيام اعتصام السودانيين فى ميدان مصطفى محمود كمبرر لذبحهم، وتدخين البانجو وممارسة الفحشاء فى خيام اعتصام المصريين فى التحرير كمبرر لذبحهم أيضاً .. هو ، هو نفس الإعلام، وهى، هى نفس أدواته. ولكن هناك مسافات نوعية بين محمد إبراهيم يوسف كمدير لأمن الجيزة، وبينه كوزير للداخلية، أعتقد أنه يدركها تماماً كما يدركها كل عاقل قارىء جيد للميدانين مصطفى محمود ، والتحرير. أعرف اللواء محمد إبراهيم يوسف وزير الداخلية الجديد، جمعتنا عدة جلسات غير رسمية أيام كان مديراً لأمن أسيوط، والتقيته بعد تقاعده عن الخدمة أيضاً. وبدون أى غضّ للنظر عن الأفكار المنهجية الثابتة فيما يخص جهاز الشرطة كجهاز قمعى كانت انتهاكاته سبباً مباشراً فى تفجير شرارة الثورة المصرية، ومازال على حاله. ويظل فى احتياج ليس لإعادة هيكلة فقط بل فى تغيير كامل لعقيدة أمنية تراكمت عبر سنوات من استخدام الأنظمة القمعية له باعتباره العصا الغليظة لفرض سلطتها ونفوذها. فإننى أتحدث مباشرة عن إبراهيم يوسف الرجل الذى عرفته عن قرب، ومع هذا يظل فى دائرة المعارف إلى أن يثبت هو العكس . عقب انتهاء مراسم إحدى المناسبات الاحتفالية فى محافظة أسيوط جمعتنا جلسة جانبية بحضور المحافظ أيامها اللواء أحمد همام عطية، وأحد كبار الصحفيين النافذين الذين لا أحب مجرد ذكر أسمائهم، والأهم بحضور محمد عبد المحسن صالح، صاحب ومالك الحزب الوطنى "المنحل" فى المحافظة ورئيس مجلسها المحلى لعقود، ثم عضواً بالشورى ثم و لامؤاخذة أمين أمانة المجالس الشعبية المحلية بالحزب على مستوى الجمهورية. كان الحدث المهيمن أيامها تلك الهزيمة الرسمية القاسية للحزب الوطنى فى أول انتخابات برلمانية تجرى تحت إشراف قضائى عام 2000 فى مواجهة المستقلين الذين هيمنوا على البرلمان، فضلًا عن تسرب سبعة عشر نائبا إخوانياً إلى المجلس الذى حمل إعلامياً لقب (مجلس المستقلين). ولضمان الأغلبية قام الوطنى بضم المستقلين لعضويته إما قسراً أو إغراءً .. دار الحديث حول المسؤولية عن نتائج الانتخابات، ومباشرة وجه اللواء يوسف حديثه لعبد المحسن صالح قائلاً ( ماهو من خيبتكم )!! قاصداً الحزب ورجاله رد صالح (الشرطة هىّ السبب )!! ، سأله اللواء يوسف مُتهكماً ( يعنى الشرطة هىّ إللى زورت الانتخابات لصالح المنافسين )؟! اشتعل الموقف فجأة، وقاد عمليات التبريد والتهدئة الصحفى الكبير بصفته راغب مصلحة من الطرفين، ومحافظ أسيوط اللواء همام . كان واضحاً أن هناك تاريخاً من الخلافات غير الشخصية بين الرجلين، وتفاصيل أخرى غائبة عنى، والحل الوحيد لاستخراجها هو المزيد من التسخين. ومع إصرار اللواء يوسف على الاستمرار فى الردّ على أسئلتى واستفساراتى هجومياً ضد صالح ، ومع فشل اللواء همام فى احتوائه وجه إلىَّ همام تنبيهاً مباشراً ( هذا الكلام ليس للنشر ).. قال اللواء يوسف منفعلاً ( ماذا ستفعل الشرطة من أجل الحزب ؟ هل تجبر الناس على انتخاب مرشحيه بالعافية ؟ وهل المطلوب منى كشرطة تنفيذ أوامر بالتزوير ؟ الشرطة دورها أمنى بالأساس، والتزمت الحياد ويكفى أنها تغاضت عن كل مخالفاتهم وتتعاون مع نوابهم ومرشحيهم وتساعدهم فى قضاء الخدمات والتوصيات المباشرة شأنها شأن أى مديرية أخرى أو جهة حكومية تحت سيطرة الحزب، المشكلة فى الحزب وليست فى الشرطة) . ثم وجه حديثه لعبد المحسن صالح ( المشكلة سياسية، وليست أمنية يا سيادة الأمين ) منفردين وعقب تقاعده عن الخدمة التقينا سألته مجاملاً كيف تتخلى وزارة الداخلية هكذا فجأة وتماماً عن خدمات رجالها الأكفاء أصحاب الرؤية السياسية وذوى الثقافة خصوصاً فى مجال حقوق الإنسان ؟ استشعر بحس أمنى ذكى ما يتضمنه السؤال من إشارة خبيثة لقضية مذبحة السودانيين فى ميدان مصطفى محمود. وكانت إجاباته أكثر خبثاً. لم يهاجم الداخلية مباشرة تلك التى تخلت عن خدماته وخبراته تماماً، أو يدعى أن هذا ربما راجع لموقف شخصى منه على خلفية مواقفه أو قناعاته التى يجهر بإعلانها صراحة فى كل مناسبة ضد رموز وقيادات الحزب الحاكم وكان يستطيع أن يفعل. ثم أكثر خبثاً، راح يتلو كل تقارير الدعاية الإعلامية المضادة التى شوهت المعتصمين السودانيين وصورتهم كمجموعات من الفوضويين يمارسون الفحشاء وشرب الخمر ولعب الميسر داخل الخيام، وكرر حيثيات الدفاع الإعلامى الرسمى وغير الرسمى عن الشرطة وما ارتكبته من انتهاكات فى هذه المذبحة. كان يعقب على مقاطعاتى دائماً بسؤال تهكمى ( مش أنتم يا صحفيين اللى كتبتم كده ) ؟ لم أكن أمتلك الجرأة، أو عشم الصداقة حتى أرد بأكثر من سؤال تهكمى أيضاً ( هىَّ الصحافة اللى كتبت كده، كتبت بمزاجها ؟، ماهى كتبت اللى انتم عايزينه ينكتب يا باشا)!!. القضية ليست فى محمد إبراهيم يوسف أو قميصه فقط دليل براءته أو إدانته سواء فى مذبحة مصطفى محمود أو فى مذابح مُفترضة فى التحرير ولكنها أيضاً فى ذيول إعلام كريه يظل على استعداد دائم لقراءة القميص على الوجهين، من قُبل ومن دُبر ، وفى الآن نفسه. إبراهيم يوسف وكما أعتقد يدرك الفارق النوعى فى المسافة بين مصطفى محمود، والتحرير وبما أنها شهادة أجتهد أن تكون حقًا كما يدرك تماماً الفارق بين انتزاع الاعترافات فى قضايا الجنايات بالتعذيب وهو ما يرفضه نهائياً، وبين انتزاعها فى قضايا الجُنح، وهو ما قد يتغاضى عنه.