من المعروف أن للأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ كتابات في مختلف المجالات، قام بنشرها في عدة مجلات قبل أن يتجه إلى نشر كتاباته الراوائية عام 1936، وتنوعت كتاباته الفكرية في موضوعاتها، وإن غلب الطابع الفلسفي عليها، نظرا لكونه دراسًا للفلسفة، وبمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، ننشر مقالة لمحفوظ يعرض فيها رأيه في فلسفة الحب، ويناقش المذاهب المختلفة بأسلوب منطقي، ونعد قارئ "المشهد" بنشر العديد من المقالات التي تساعد في الكشف عن جوانب جديدة من حياة عميد الرواية العربية. ومقال "فلسفة الحب" كتبه محفوظ عام 1934، وكان عمره حينذاك ثلاثة وعشرين عامًا، ونُشر في " المجلة الجديدة" التي كان يرأسها المفكر الراحل سلامة موسى، وتحديدًا في عدد أكتوبر 1934. ويؤمن محفوظ بالفلسفة باعتبارها "علم الشمول الذي لا يُحدد، أو علم كل شيء، وبمعنى أدق علم القوانين العامة التي تسير الأشياء جميعًا" وهي "علم العلوم" لذا فلا عجب أن يتناول من خلال مقاله أبسط الآراء وأكثرها تعقيدًا حول الحب، بالتحاور والمناقشة وتفنيد الواهن منها، والتأكيد على ما يعتقد في صحته، انطلاقا من مبدأ أنه لا يوجد حق واقع وتصور ذاتي غير قابل للمناقشة. فلسفة الحب بقلم الأستاذ نجيب محفوظ الحب هو تلك النسمة الحية التي تشيع في جميع الكائنات الحية، نبصرها في تآلف الخلايا وتجاذب الأطيار وتزاوج الإنسان، وقد يكون من الحكمة – إذا رغبنا في أن نزكي إحساسنا به أو نسمو بعواطفنا فيه – أن نقصد جماعة الشعراء نصغي لأناشيدهم، وقد وهبهم الله من طاقة الإحساس بهذه العاطفة وغيرها ما يبلغهم مناهم من تصوير العواطف العميقة؛ حيث يقف العقل حائرًا مترددًا.. فما علاقة الفلسفة بالحب الحق؟ إن أي فلسفة هي وجهة نظر يفسر بها الفيلسوف مختلف الحقائق، ولما كان الحب أحد هذه الحقائق فللفلسفة رأيها عنه، أو قل فللفلسفات المختلفة آراؤها المختلفة عنه، فواجب علينا نحو أنفسنا أن نعرف هذه الآراء. نعم إن الحب عاطفة ولكن المعرفة التامة للعاطفة لا تتطلب فقط إحساسنا بها وإنما يجب أن يضاف إلى ذلك امتحان وتكييف العقل لها حتى تملأ حقيقتها القلب والعقل؛ فيظهر العارف بمتعة الظافر بالنور بعد التخبط في الظلام ويحس إحساس المطمئن بعد التردي في مهاوي القلق والشك. وأول ما يخطر على بال الباحث هو هذا السؤال ما أصل الحب ؟ وتجيبنا الفلسفة إجابات مختلفات بعضها يرجع للمذهب الواقعي وبعضها للمذهب التصوري وتغلب على البعض الآخر الأبحاث العلمية المادية، وفي كل من هذه الآراء نجد جانبًا من الحقيقة. وقبل أن نتكلم عن هذه المذاهب المختلفة، يحسن بنا أن نذكر مذهبًا ساذجًا نبت في العقول البسيطة الأولى وترك آثاره في معتقدات بعض الجماهير، وخلدت اللغة الشعرية – باستعاراتها وتشبيهاتها – معالمه، يفسر هذا الرأي في الحب بالسحر، ويقول إن المحبوب يحب بقوة سحرية تمكن فيه هي التي تمكنه من القلوب والأهواء ومن هنا جاء الاعتقاد بأن بعض الأعمال السحرية قد توقع في شراك الحب من كان عاصيًا، أو إنها ترجع إلى وكر الحبيب من جذبه هوى جديد أو صرفه ملل وسأم، ولغة الغرام تدل على هذه العقلية وما تزال ألفاظ السحر ترادف ألفاظ الغرام. لكن العقل لا يسلم للسحرة بآرائهم ولا يؤمن بالسحر؛ لأن للعقل منطقًا ثابتًا، وليس للسحر منطق ما، ولأن السحر يمثل حالات فردية خاصة وأحوالًا شاذة لا تخضع لقانون، أما العقل فنزّاع إلى معرفة القانون لكل حادثة، بحاّث عن الحقيقة الواحدة المشتركة بين ظاهرات مختلفة الظاهر، لذلك كله فهو ينبذ فكرة السحر ويرى في الحب رأيًا آخر، يقول إننا لا نحب المرأة ولا البحيرة ولا الأنهار ولا الأوطان ولكننا نحب الكمال، إذ أن هناك كمالات وسجايا تنزع إليها قلوب البشر بالمحبة فإذا لقيتها في شيء جامد أوحي اختصته بهواها، أي أن المحبوب لا شأن له في الحب إلاّ بقدر ما يحمل من هذه السجايا، وهذا رأي يذكرنا سريعا بفلسفة أفلاطون وخاصة نظرية المثل التي تقابل المخلوقات والتي يختلف حظها من الكمال فيختلف حظ الناس منه تبعًا لذلك وتتفاوت أقدارهم بقد ما فيهم من كمالات. ولمّا كانت هذه الصفات الكاملة كثيرًا متباينة سعى العقل – كعادته – إلى الكشف عن الوحدة المشتركة فيها، بحث عن الأصل الأول لجميع هذه الكمالات ووجد ضالته في "الله" فالله هو أصل الكمالات وهو – تبعًا لذلك – أصل الحب ونحن نوزع الحب على الأشياء تبعًا لقربها منه أو بعدها عنه. ونحب الملائكة، فالناس، فالحيوانات وهكذا. ومن هنا أتت قدسية الحب. وهنا يتبادر إلى الذهن اعتراض وجيه: إذا كنا نحب الكمال في المحبوب فكيف يتأتى لنا أن نحب ما هو بعيد كل البعد عن الكمال؟ ويرى أصحاب هذا الرأى أن الخطأ يأتي من أن الحب لم يأخذ مجراه الطبيعي وأنه يأتي مما يضلل عين المحب عن الحب الصادق وليس من الحب نفسه، فإذا صدفت نفس عن الحب السامى فالذنب ذنب النفس، ويعزون الفساد إلى النفس البشرية، ويذهبون مذاهب مختلفة في تعليل منشأ هذا الفساد فيعلله روسو بالمجتمع وتعلله الأفلاطونية الحديثة باتصال النفس بالجسد، وغير ذلك لما لا يدخل في نطاق بحثنا، وإنك إذارحضت نفسك بما يعلق بها من جراثيم الفساد خلصت للحب الكامل وخلص الحب للكمال والخير. تُجمع هذه الآراء – كما ترى– على أن سر الحب في المحبوب سواء أكانذلك لسحر كامن فيه أو صفة كمال يتحلى بها أو كان لقربه من الله أصل الكمالات، ثم كان لتقدم علم النفس واستقلاله عن الفلسفة أثر قوي في فهم الحب ودراسته لأن علم النفس الحديث يدرس الظاهرات النفسية دراسة علمية، والحب عنده ظاهرة من هذه الظاهرات فهو يفسر على أساس أنه ظاهرة ذاتية تتعلق بنفس المحب لا بنفس المحبوب كما رأينا عند أصحاب المذاهب السابقة، ولذلك عنى علماؤه بنقد فلسفة الحب السابقة. فمثلا الفالسفة السابقون كانوا يعزون أخطاء الحب إلى فساد النفس ويعتبرون الخطأ شذوذًا وأن الحب الطبيعى يسيردائمًا في طريق الكمال، فيقول المعترضون: إن الخطأ في الحب ليس عرضًا وشذوذًا ولكنه من صميم جوهره فلا يسمى عاشق من يحب المرأة بقدر ما فيها من جمال، ولا يسمى بخيلًا من يعشق المال بقدر ما فيه من منفعة،إنما العاشق هو الذى يحب المرأة فوق ما تستحق أضعافًا؛ بل هو يحبها أحيانا عن غير استحقاق، وإنما البخيل هو الذى يحب المال حبًا جمًا أضعاف أضعاف ما تتطلب من المنفعة، فالحب كما يقال أعمى وفيه لوثة وجنون لأنه يتوهم الجمال؛ حيث لا جمال، ويبالغ في تقديره، وإذا وجد فلا يقال بعد ذلك أن أصل الحب في المحبوب؛بل إننا نقدرالشيء تبعًا لهوانا من غير تدخل جدارة الشيء أو عدم جدارته. ويقول هؤلاء العلماء أن الحب وثبة نفسية ماهيتها أن تمتلك ما تظنه يشبع هواك في أصل هذه الرغبة؟ لو كنا نستطيع أن نحلل النفس تحليلا وافيًا لما حق علينا من أمرها شيء ولفهمنا أصل الحب حق الفهم، ولكن أمر النفس مبهم جدًا رغم هذه الأبحاث الطوال التي كتبت عنها وعلى هذا فمعرفة أصل الحب لا يمكن إلا أن تكون تقريبًا ماسة لبعض جوانبه، قد يكون الأمر في الحيوان سهلا لأن حياته النفسية بسيطة تسير على وتيرة واحدة وتتحكم فيها الغرائز، أما نفس الإنسان فراقية معقدة أشد تعقيدًا، نعم قد يمكن التكلم عن (حب الانسان) بوجه عام كأنه موضع يخضع للأحكام العامة فتصدق بعض الصدق، ولكن الواقع أن الحب فردي ذاتي وأن كل فرد يخضع بنوع من الحب ولذلك فطريقة الروائى الذي يريد أن يحكي قصة غرام شخص ما أن يبدأ بسرد تفاصيل حياته الاجتماعية والنفسية لأنه بعلم بداهة أن الحب يلحق بذاته ويتبع طبيعته الخفية. لقد مهّد ما هدى إليه علم النفس الطريق لتفسير جديد للحب هو تفسير المذهب التصوري، فهو يرى أن الحب يوجد قبل وجود موضوعه وبعده وأن أدّى ظاهر التفكير إلى عكس ذلك لأنه لا يشاهد حب إلا هو ملتحم بموضوع، والدليل على ذلك أحلام اليقظة، فكثيرًا ما نحلم بالحب من غير أن نحس وبموضوع الحب نفسه، ويبدأ الأمر أكثر وضوحًا عندما ترتد النفس عن التعلق بهوى ما فنحسه جثة هامدة بعد أن كان شرارة حياة وقاّدة، وعندما يخلف الكره الحب بعد أن يخيب،أما العاشق فيما يعشق وينكشف له فإذا به عار عن كل ما يجد عن كل ما يحببه إلى النفس، فالحب هنا موجود ولكنه لا يجد ما يروى غلته، والحب إذن يخلق ما في موضوعه من جمال على هذا الرأى من النادر جدًا أن يوجد في الحبيب بعض ما نضيفه اليه من السجايا، أليس قد نكرهه فلا نرى فيه شيئا من الجمال؟ فالحب يبدأ كذبه علينا إذا استقر على شيء ما ورأى المذهب التصورى عن الحب متأثر جدًا برأيه عن المعروف فهو يقول إن كل محصول معرفتنا عبارة عن صورة قائمة بنفسنا لانكاد نشد في حقيقة ما نتصور أنه يقابل في العالم الخارجي، لكن كيف يجوز لنا أن نستوثق من ذلك؟ ومن يدرينا أن الصورة التي في نفسى يقابلها موضوع في الخارج مقابلة العلة للمعلومة؟ ويقرر المذهب أننا لا نعرف إلا هذا الصور وعلى نفس المنطق يقول إن الحب عاطفة نفسية مستقلة عن كل مصنوع خارجي، وهى أبعد ما تكون تأثيرًا بأي شيء خارجي، بل على العكس فهي تؤثر في الأشياء وتكيفها على حسب منشيئتها. وكان من نتيجة الاعتقاد بهذا الرأي أن جنح أصحاب التشاؤم ودعوا إلى مقاطعة الحب، ولأن فلسفتهم كشفت لهم عما يعبد الناس من آهلة وخير وجمال فإذا بها اصنام وخدع وأوعاه وإذا كان ذلك كذالك فمن العبث أن نحب أو نبجل خضوعا منا لعاطفة الجبن التي نرتضيأ ن ننخدع بسعادة مزيفة، ولكن التفسير التصوري للحب يعجز عن تعليل الاختيار في الحب: قد يخدعك الحب في إمرأة ولكن لماذا يخدعك في امرأة بعينها دون سواها أليس يشعر هذا بأن للمرأة نفسها تأثير ما ؟ ثم كيف تعلل الحب المتبادل بين شخصين؟ تبقى جماعة من الماديين لا يرضون عن هذه النظريات السابقة لأنهم لا يقبلون الأبحاث الفلسفية المجردة ويميلون إلى تفسير كل شيء تفسيرًا ماديًا ويعنون بتفسير الظاهرات النفسية بإرجاعها للعوامل الفسيولوجية والبيلوجية، وهم يرجعون العواطف المعقدة إلى أصول بسيطة يسمونها الميول؛ فالشراهة مثلا ليس عندهم حب الطعام المفرط ولكنها ظاهرة نهائية للميل الغذائي، والحب هنا هو نهاية الميل للتناسل، ولكن كيف السبيل إلى أغفال هذه الحقيقة الواقعة وهى أن الحب قد يوجد من غير أن تمازحه فكرة الميل للتناسل كما هي الحال في الشذوذ الجنسي والحب الأفلاطوني، نعم قد يرى على ذلك بأن المجتمع هو الذي يفسر الطبيعة وأن الشذوذ مثلا قد يأتي من التربية الفاسدة أو الظروف القاسية ولكن العلماء يقولون إن الشذوذ يوجد في كل الطبيعة الحيوانية، الحق ان أي نظرية من هذه النظريات لا يمكن أن تكفي لتفسير الحب لأن كلا منها –مع عدم انكار ما تحوي من تعمق في التفكير– تبحثه في ناحية واحدة، فتفسره تفسيرًا بسيطًا لا يتناسب وتعقد عاطفته، فهو إما ظاهرة ذاتية فقط أو موضوعية بحته أو سحرية لا غير أو أنه ظاهرة بيولوجية. والحق أن الحب عاطفة مركبة؛ بل هي أعقد العواطف جميعًا ولا عجب فهو محور الوجود الحي والحقيقة أنه لا يوجد إنسان لا يحدوه في عمله حب اما سواء في طفولته أو شبابه أو كهولته أو شيخوخته، كأن الحب أداة في يد الحياة تسخرنا به لأغراضها. الحب عاطفة معقدة جدًا نجد فيها الميل البيولوجي والوهم الذاتي والجاذب الموضوعي والإلهام القدسي والسحر الساذج، وأنواع الحب المختلفة تأتي من تغلب أحد عناصره الكثيرة، فقد يغلب على النفس ما في الموضوع فيصير الحب مثليًا، وقد تغلب أوهام النفس فيصير جنونًا، وقد تتحكم الغريزة فيكون شهويًا وهكذا مما لا يحصره عد. لعل نوع الحب الذى يمنحه قلب الشخص يدل أقوى الدلالة على نفسيته وأسلوبها في الحياة ويكشف عن شخصيته وما فيها من قوة أو ضعف، سمو أو انحطاط، فالحب على هذا مفتاح سري نستطيع – مع التأمل وحسن الفهم– أن نلج به مغالق النفوس.