كيف ألوم الشعب المصري البائس، الذي لا حول له ولا قوة، على سلوك مُضَلل في الانتخابات البرلمانية وهو يوسد الحكم لغير أهله من المتأسلمين؟ كيف أفعل ذلك ومن كانوا على قمة الحكم ستين عامًا من العسكر يرفعون من إعالته العقلية؟ والإعالة العقلية العالية هي ارتفاع نسبة الجهلاء مقارنة بالعقلاء الذين يدبرون مسيرة المجتمع، و يعولونه فكريًا وتنمويًا. وعندما يعم الجهل تنتشر فيروسات الفساد، و يلتصق الإنسان بالدنيا، و يبتعد عن المولى سبحانه وتعالى. كيف ألوم الشعب على سلوكه المُضَلل في الانتخابات البرلمانية، وقد باع حكام مصر ذلك الشعب وأهدروا مصالحه مقابل ملذاتهم الخاصة، وحياة الدعة والاستقرار، والسلام المخزي، وانصياعهم الأعمى لمطالب أمريكا "ودلوعتها" إسرائيل، التي تسعى إلى الهيمنة على العالم، والوقاية من الصين وروسيا، ولكي لا ترتكب خطيئة بريطانيا العظمى وتفقد سيطرتها على العالم، و لكي تظل صاحبة السيادة والمصلحة الأولى لها ولشعبها الأمريكي المحظوظ بتلك الإدارة الابتزازية الواعية. خطة أمريكا في تحقيق ذلك تتمثل في عسكرة الدول التي تريد السيطرة عليها، و تستعمرها عسكريًا وتنشئ القواعد العسكرية، وخاصة قواعد الطيران، كما هو الحال في الخليج وأفغانستان والعراق، وتبتز مواردها الطبيعية في نفس الوقت. و لا ننسى وجود الفريق عنان في أمريكا في بداية الثورة، و تردد الجنرالات العسكريين الأمريكيين على مصر بعد ذلك، و لتذهب مصالح الشعوب ورفاهيتها: كرامة، و صحة، و تعليمًا، و بيئةً وتنظيمًا؛ إلى الجحيم. و من ثم فحكامنا هم الأجدر باللوم والأجرم بالخطيئة. هل نلوم الشعب على سلوكه المُضَلل في الانتخابات البرلمانية ونحن نرى عقلاءه الذين يعولونه فكريًا وقد ارتكبوا الآثام والأخطاء غير المبررة على الإطلاق؟ و لنبدأ بالطائفة التي أنتمي إليها أنا شخصيًا، وهي أساتذة الجامعة. لا تزيد نسبة من يقومون بعملهم بدرجة مقبولة - وليس بدرجة جيد جدًا أو ممتاز؛ لعدم توافر الضمير والإمكانيات- عن 10% على أقصى تقدير؟ هل يقوم القضاء والنائب العام بعمله كما يجب؟ لو كان الأمر كذلك ما سمعنا عن "أريد حلًا"، وما عانينا من الرخاوة القضائية، وما غابت عنا العدالة الناجزة، ولَكُنا قد رأينا مبارك والعادلي وكهنتهم وقد نفذ منذ أشهر فيهم القصاص بما يستحقونه. هل نلوم الشعب على سلوكه المُضَلل في الانتخابات البرلمانية ونحن نرى الأطباء العظام ترتفع أجور فحصهم للمريض إلى 200 جنيه وأكثر مع الكشف المستعجل وأمثال هذا الابتزاز الدنيء لأناس مرضى أو نصف أموات؟ المهنيون المتعلمون المتخصصون العاقلون كلهم من أطباء وصيادلة ومحامين ومحاسبين ومدرسين؛ يغوصون في عالم من الابتزاز والفساد بما لا يمكن حصره في هذا السياق المحدود. هل رأيت الدكتور"سيد البدوي" وهو ينزل من سيارته المرسيدس الضخمة في إعلانه للوفد على القناة التي يمتلكها؟ لماذا يركب أمثال هؤلاء تلك السيارات التي لا تليق بشعب لا يجد رغيف خبز يُؤكل أو كوب ماء نظيف يُشرب، و لماذا يعيشون في تلك القصور الفارهة وهم يتشدقون بتعظيم الشعب وتخديره؟ والله لست شيوعيًا، ولكني عاشق للقيم الإنسانية الإسلامية التنموية المتمثلة في الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية فقط، و ليتباين رزقنا حسب مواهبنا وعطائنا، ولكن ليس بهذه الدرجة الصاعقة. كيف نلوم الشعب على سلوكه المُضلل في الانتخابات البرلمانية وقد سمح حكامه وخبراؤه الاقتصاديون - مثل يوسف بطرس غالي وغيره كثيرون- بتدمير الاقتصاد المصري؟ وذلك من خلال السماح بالرأسمالية المتوحشة لتنخر في عظام هذا الشعب، وتدمره كما دمرت الاتحاد السوفيتي من قبل علي يد جورباتشوف خائنهم الأعظم هناك، و ذلك من خلال أنياب سمكة القرش الأمريكية الثلاثية المتمثلة في البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي. وهذا ما جعل ماليزيا ومهاتير محمد يحققون المعجزة الاقتصادية لأسباب أساسية، من ضمنها رفض مطالب تلك الأنياب الثلاثية الشريرة. هل نلوم الشعب على سلوكه المُضَلل في الانتخابات البرلمانية ونحن نرى الوزراء ورئيس الوزراء يتحولون إلى عرائس ماريونيت يحركها المجلس العسكري الآن؟ ومن قبله الرؤساء الأباطرة؟ هل غاب العقل عن حكامنا ليستدعوا شخصًا مثل الدكتور الجنزوري في شيخوخته الحالية التي تجعله، بحكم الطبيعة البيولوجية، لا يتذكر إلا أحداث الماضي بكل حدة، أما الحاضر و أحداثه فيرفض العقل الطاعن في السن أصلًا تسجيلها في الذاكرة حتى يتعامل معها؟ هل نلوم الشعب على سلوكه المُضَلل في الانتخابات البرلمانية وقد ظهر دعاة الدين من مخابئهم - ابتداءً بالشيخ صلاح أبو إسماعيل حتى هواة الدين أمثال العوا - لكي يثيروا الفتنة الطائفية؟ ويوحوا للناس بأن الشعب المصري يتعرض لحرب للقضاء على إسلامه من الأقباط واللبراليين والأحرار، الذين هم مسلمون أيضًا؟ هل ترضى أيها القارئ الكريم أن نجد جماعة تُنشأ في الصباح غدًا تحت اسم "الإخوان المؤمنون"، ثم في اليوم التالي، بعد غدٍ، تُنشأ جماعة أخرى تحت اسم "الإخوان المحسنون"؟ إذا فعلوا ذلك، فماذا يبقى للمسلمين الذين لا ينتمون إلى تلك الجماعات؟ أليست هذه فتنة وشقاق؟ لا أدري ماذا كان سيفعل الشيخ البنا رحمه الله لو عاش ليرى هذه الأحداث المخزية؟ أظن أنه كان سيعلن انسحابه من هذه المهاترات الجاهلية العصبية. و العجيب أن هؤلاء المتأسلمون السياسيون عندما يصعدون على أصوات الدهماء المغيبة إلى الحكم تجدهم يلبسون البدل الفاخرة حتى لا تعطلهم الجلابيب عن ركوب "المرسيدسات" التي سيركبونها بعد التمتع بمجلس العرائس الموقر، ثم تجدهم يمدحون في الديمقراطية بعد أن كانوا يكفرونها، ثم يشجعون السياحة بعد أن كانوا يلعنونها، ثم يوجهون طبق استقبال عقولهم نحو أمريكا والرؤساء، و تبًا للشعب وأصواته التي وضعتهم على كراسي الحكم الوثيرة. هذا قانون معروف في علم الاجتماع يتعلق بالتحول الهدفي، وهو ليس من ابتكاري أو اختراعي، و يطلق عليه العلماء الاجتماعيون لقب "القانون الحديدي للسلطة الهرمية Iron law of Oligarchy." بعد هذا العرض الموجز والكئيب لأحداث مجريات الثورة الباسلة في هذه الأيام، ماذا يجب أن نفعل؟ هل نستسلم و نترك الأمور تستمر في هذا الانهيار المهين؟ بالطبع لا. نعود للقلة العاقلة في هذا المجتمع ونخاطبهم ألا ييأسوا من توضيح تلك الحقائق المرة للبسطاء من شعب مصر؛ حتى يتوقف بأصواته عن المشاركة في هذا الانهيار المخزي. نأمل في شباب الثورة العظيم، و وعيه الباهر المضيء، وأحزابه الناشئة الجميلة. و لتتجمع هذه الأحزاب الثورية والتحررية الجميلة ضد تلك التيارات الظلامية المتمسحة بالدين واللعب بمشاعر المسلمين. و أدعو الشعب المصري النظر في تلك المقترحات التالية - للخروج من تلك المرحلة التي تدفع مصر إلى عهد مبارك تمامًا بلاعبين جدد، و تدفع مصر إلى التفتت إلى دويلات أربع كما حددتها خطة الشرق الأوسط الجديد، التي اعتمدت بالفعل، وجارٍ تنفيذها بقرار من الكونجرس الأمريكي-: 1. الإيمان الحقيقي بثورة يناير الحبيبة، والتي يتمسح فيها المجلس العسكري، والإخوان السياسيون، وفلول الحزب الوطني، و الرأسماليون المتوحشون على السواء، وهم أعدى أعدائها. 2. دعم الكتلة المصرية وأي مرشحين خارج الإخوان المسلمين والسلفيين؛ لمجرد منع الفتنة الطائفية، و لتحقيق التوازن في هذا المجلس الكئيب، ناهيك عن انتهازيتهم وأفكارهم التنموية المعدومة، و ضحالة مهارتهم الإدارية في بناء الدولة أو فهم الأحداث العالمية. 3. العمل من أجل الدعوة لرموز محترمة عاقلة؛ لتجاهد معنا على كرسي رئاسة الجمهورية، بإخلاصهم وعلمهم وقدرتهم الإدارية، ومكانتهم وصلاتهم العالمية القوية، وعلى رأسهم البرادعي، الذي ستحاول أمريكا وإسرائيل وكهنة نظام مبارك اللعين المزيد والمزيد لتلويثه، واتهامه بكل الموبقات الدنيوية والأخروية، ثم هناك عظام آخرون أمثاله سواء حمدين صباحي، أو عبد المنعم أبو الفتوح، ويا ليتهم الثلاثة يتوحدون في إطار معين. و المهم أن نتجنب عمرو موسى، لأني أشعر أنه هو المكمل لخطة إجهاض الثورة الحبيبة وإرجاع النظام المباركي اللعين، وتحقيق المطالب الأمريكية والإسرائيلية على السواء. 4. الاستمرار في الدفاع عن رجال مصر الأحرار وثوارها الأطهار، والأمل فيهم، فهم والله الطليعة التي ستنقذ مصر من هذا المستنقع العفن الذي يؤرق المخلصين الأبرار من شعب مصر الحبيب، رجال وشباب نفخر بهم، ولنتحمل معًا تلك المسئولية، فهي الجهاد الحقيقي وليس ذلك الذي يصوره لنا المتطرفون المدعون، حملة مفاتيح الجنة وصكوك الشفاعة. ----------------------- أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية