من دواعى النكد أن تخسر كل الفرقاء وأنت تحاول التفريق بينهم؛ ليعترفوا لك فى لحظة الحقيقة بأنك الأحق، وأنهم جميعًا ينتخبونك لتكمل المشوار. هكذا فعل المجلس العسكري حين راح منذ البداية يلعب لعبة "فرق تسد"، وكانت البداية مع تعديلات "نعم" و"لا"، وانحاز الناس ل "نعم" وانهزمت جماعة "لا"، وفرح أنصار نعم وفى مقدمتهم السادة المجلس العسكري، وقالوا بأن الشعب صوت لهم وأعطاهم الشرعية! وبدأ بقية أنصار نعم يغترون، وركب الشيطان وساق ولا يزال يقود! وهكذا وجدنا أنفسنا فريقين، الفريق تبع "نعم" يشعر بعزوة "الأغلبية"، وجماعة "لا" كما هم، منقسمون دائخون لا يعرفون من أين يبدأون القصيدة، ولا أين سوف يحط بهم المشوار. ولما جاء الدكتور السلمي بوثيقته" البالون" ليختبر أنصار نعم وأنصار لا في وضع المجلس العسكري ضمن جملة مفيدة، ويمنحه دورا غير المنوط به في الدفاع عن الوطن، فوجئ بأن الجميع ضد الوثيقة، وبرغم أن السلمي "رمزيا" ذهب مسرعا ليعدل المواد محل رفض "الإجماع الوطني" - إن كان لا يزال هناك للمفردة محل من الإعراب - لكن تعديلاته ذهبت أدراج الرياح، وبدا المشهد غير واضح، وخفتت أصوات الذين كانوا يطالبون بمبادئ فوق دستورية، وأصبحت كالهمس، من شدة حيرتهم، فهم باتوا مكرهين بين خيارين كلاهما مر، خيار حكم العسكر، وخيار حكم الإخوان وجماعتهم من السلفيين! اللافت في الأمر أن السادة المجلس العسكري وجدوا أنفسهم في" كورنر" كغرباء، فلا هم نجحوا في استمالة الإسلاميين، رغم كل الذي فعلوه معهم منذ خلع مبارك، ولا هم نالوا ثقة الليبراليين والعلمانيين وأنصار الدولة المدنية، وبدأت الحكاية تدور - أو كأنها تدور- الآن بين العسكر والإسلاميين! قلت سابقا إن العسكر لديهم حظوة عند من يعرفون" بحزب الكنبة"، وهم الأغلبية الصامتة، وإن كنت لا أحب استخدام هذه التوصيفات، وقلت أيضًا إن هؤلاء سوف ينحازون للعسكر دون تفكير فى العواقب، وقلت كذلك إن العسكر إن دخلوا في منافسة الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع فإن العسكر يفوزون، لكن هذا على سبيل الفرض والعبرة، ودعوة الإسلاميين إلى عدم الاغترار والتواضع. بيد أن صورة المشهد غير المستقرة تجعل من يتابع يغرق فى بحار من الحيرة، إنما هناك دومًا من يتوقع تدخل القدر، والقدر حاضر فى كل لحظة، والقدر لا ينفك عن فرض مقاديره، والقدر لا ينحاز، فهو "العدل"، وتدين المتدين ينفع المتدين أولا وعاشرًا، وقد ينفع المجمتع إن كان تدينه حقيقيًا، تدين ينظر إلى الناس باعتبارهم خلق الله وعيال الله، تدين يعامل الناس فى الدنيا كما أراد الله، لا كما يريد هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم متحدثين باسم السماء، وإن الله سبحانه وتعالى يكافئ على العمل، فى الدنيا والآخرة، وأظن أن الجميع في أمس الحاجة إلى الركون إلى الله واللجوء إليه، وترك المكر، خصوصًا المكر السيئ لأنه لا يحيق إلا بأهله. والله اعلم.