*عميد الأدب العربى فى بيت الله الحرام: والله إنى لأشم رائحة محمد صلي الله عليه وسلم، فى هذا التراب الطاهر نزار: وزري يكبلنى ويخرسنى الأسى.. فيموت فى طرف اللسان كلامُ
قالوا له إنهم بمحاذاة "الحديبية" حيث نزل الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته عام 6 هجرية معتمرين فطلب من السائق أن يتوقف، ثم ترجل، وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمها، ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب: "والله إنى لأشم رائحة محمد صلى الله عليه وسلم، فى هذا التراب الطاهر".. وعلى مدى نصف ساعة بذل مرافقوه جهدهم كله فى تهدئة روعه، ثم واصل الركب سيره إلى مكةالمكرمة حتى دخلوا الحرم من باب "السلام" وتوجهوا نحو الكعبة "..فاستلم الحجر وقبله.. ولم يغادر مكانه، بل ظل يتنهد ويبكى ويُقبل الحجر حتى وقفت مواكب المعتمرين انتظارا لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه". هل تخيلت هذا الرجل الذى أضاء النور قلبه فنسى العالم واستغرق فى بكاء ونحيب؟ هل حددت بعض ملامحه؟!. عموما، هذا هو الأديب الكبير المكفوف طه حسين، واالقصة البديعة للكاتب الإسلامى الكبير د.محمد عمارة فى مقال رائع حكى فيه عن زيارة عميد الأدب العربى للبيت الحرام عام 1955، بصحبة نخبة من أدباء مصر ومفكريها وعلى رأسهم العلامة الشيخ أمين الخولى الذى كان رفيق العميد فى تلك الرحلة التى زار فيها عميد الأدب العربى المملكة العربية السعودية بصفته رئيسا للجنة الثقافية للجامعة العربية وهناك وبعد أن ألقى العميد كلمة المؤتمر استقل سيارة بصحبة المفكر الكبير الشيخ "أمين الخولى" قاصداً بيت الله الحرام ، وفى خطابه بالمؤتمر تحدث "طه حسين" عن مهبط الوحى ومشرق الإسلام، فقال: "سادتى.. لقد سبق لى أن عشت بفكرى وقلبى فى هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاما، منذ بدأت أكتب على هامش السيرة حتى الآن، ولما زرت مكة والمدينة أحسست أنى أعيش بفكرى وقلبى وجسدى جميعا، عشت بعقلى الباطن وعقلى الواعى، استعدت كل ذكرياتى القديمة، ومنها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة، وكانت الذكريات تختلط بواقعى، فتبدو حقائق حينا، ورموزا حينا آخر، وكان الشعور بها يغمرنى، ويملأ جوانح نفسى". فالآن أريد أن أقول لكم الحق كل الحق، الذي لا نصيب لسرف فيه من قريب أو بعيد: إن لكل مسلم وطنا، لا يستطيع أن يشك من ذلك شكا قويا أو ضعيفا، وطنه الذى نشأ فيه، وهذا الوطن المقدس الذى أنشأ أمته وكون عقله وقلبه وذوقه ومواطنه جميعا، هذا الوطن المقدس الذى هداه إلى الهدى، والذى يسره للخير، والذى عرفه نفسه، وجعله عضوا صالحا في هذا العالم الذى نعيش فيه. وأضاف عميد الأدب العربى: "أعترف أيها السادة بأنى حين شرفنى مجلس الجامعة العربية لاختيارى مشاركا فى اللجنة الثقافية للجامعة، ترددت فى قبول هذا الشرف لأن فيه أعباء لا ينهض بها إلا أولو العزم، ولكنى لم أكد أسمع أن الدورة ستنعقد في هذا الوطن الكريم العزيز، حتى أقبلت غير متردد ولا محجم، بل أقبلت يدفعنى هذا الشوق الطبيعي الذى تمتلئ به قلوب المسلمين جميعا، مهما تكن أوطانهم، ومهما تكن أطوارهم، فهذا الوطن العزيز الكريم وطن العروبة ووطن الإسلام لهذا الوطن أقدمت على قبول هذا الشرف وأنا أستعين الله على أن يتيح لى أن أنهض بأعبائه، وهي أعباء ثقال لا شك فى ثقلها. وكما يقول محمد عمارة فى المقال المشار إليه، فإن عميد الأدب العربى وبعد الفراغ من المؤتمر فى جدة ركب وبصحبته الشيخ أمين الخولي السيارة قاصدين البيت الحرام بمكةالمكرمة لأداء العمرة، يقول د.عمارة: "وشهد مرافقوه طوال الطريق كيف كان الرجل طه حسين متنقلا بين تلاوة آيات من القرآن الكريم، وبين التلبية لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك- وكيف كان يقطع هذا الاستغراق ليسأل عن المكان الذى تمر به السيارة أو تحاذيه، ليعيش ذكريات تاريخ الإسلام". وعلى موقع جوجل عليك فقط أن تكتب اسم "طه حسين" لتجد مئات "اللينكات" التى تتهم العميد بالكفر والزندقة، ومن العجيب أننا نغفر للعرايا وننسى خطاياهن، وقبلاتهن الساخنة، لكننا نستكثر على هذا الرجل كلمة طيبة!! ليس مطلوبا من قساة القلب على العميد أن يحتفلوا بكتاباته ولا أن يقرأوا كتاباً من مؤلفاته، وليس مطلوبا منهم الاعتراف بمعجزة هذا الضرير العظيم، فقط..عليهم أن يتوقفوا عن اتهاماتهم الجارحة التى أصبحت ظاهرة جديدة فى فضاء الإنترنت. 2 الثقافة السمعية حولت كثيرا من المسلمين إلى جهاز استقبال لخطب المشايخ والدعاة وحالت دون البحث والتدقيق قبل إطلاق أحكام الكفر والزندقة، وبالطبع لم تسمح تلك الثقافة بظهور صورة أخرى لعميد الأدب العربى ، ولن تسمح أيضاً بصورة أخرى لشاعر كبير مثل نزار قبانى غير تلك التى جعلته شاعرا للنساء وحارسا للفجور والعرى! على أية حال، كتب نزار قبانى قصيدة تفيض خوفا وخشية وإجلالا وخجلاً من رب السموات والأرض ومن رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فمثلما استبد الشوق بعميد الأدب العربى طه حسين وانتحب باكياً، حام نزار قبانى حول بيت الله الحرام خائفا مرتعداً مكبلاً بالذنوب غير قادر على الاقتراب من قبر نبى الرحمة مثل باقى الزائرين، فكلما اقترب تذكر خطاياه وذنوبه وثقل لسانه عن الكلام، وكتب نزار واحدة من أروع القصائد الدينية إن جاز التعبير التى يعترف فيها بالأخطاء ويطلب الرحمة والمغفرة، ولأنها قصيدة مغضوب عليها من مشايخ الفضائيات ودعاة التكفير فإن أحداً لم يهتم بها أو يتذكرها، ودعنى اليوم أقدم لك منها بعض الأبيات ربما نغفر لشاعرنا ونتوقف قليلاً عن اتهامات التكفير المجانية. وردّ الجميع ومن سناك تزودوا .. وطُردت عن نبع السنى وأقاموا ومُنعتُ حتى أن أحومَ ولم أكد .. وتقطعت نفسى عليك وحاموا قصدوك وامتدحوك ودونى أُغلقت .. أبواب مدحك فالحروف عقامُ أدنوا فأذكرما جنيت فأنثنى .. خجلاً تضيق بحملى الأقدامُ أمن الحضيض أريد لمساً للذرى .. جلال مقام فلا يُطال مقامُ وزري يكبلنى ويخرسنى الأسى .. فيموت فى طرف اللسان كلامُ يممتُ نحوك يا حبيب الله فى .. شوق تقض مضاجعى الآثامُ أرجوالوصول فليل عمرى غابة .. أشواكها الأوزار والآلام يا من ولدت فأشرقت بربوعنا .. نفحات نورك وانجلى الإظلام أأعود ظمئآنا وغيرى يرتوى .. أيردعن حوض النبى هيامُ كيف الدخول إلى رحاب المصطفى .. والنفس حيرى والذنوب جسامُ ودنوت مذهولا أسيرا لا أرى .. حيران يلجم شعرى الإحجامُ وتمزقت نفسى كطفل حائر .. قد عاقه عمن يحب زحامُ حتى وقفت أمام قبرك باكيا .. فتدفق الإحساس والإلهامُ وتوالت الصور المضيئة كالرؤى .. وطوى الفؤاد سكينة وسلامُ أنت الحبيب وأنت من أروى لنا ..حتى أضاء قلوبنا الإسلامُ حوربت لم تخضع ولم تخش العدى .. من يحمه الرحمن كيف يضامُ وملأت هذا الكون نورا فأختفت .. صور الظلام وقوضت أصنامُ