هكذا إذن اختار الدكتور محمد مرسي الجنوح إلى التحدي. انتظر خروج المؤيدين بأعداد غفيرة ليؤكد تمسكه بشرعيته واستعداده لافتدائها بدمه. لم يأبه بما يعنيه ذلك من إنفاذ مباشر لاحتمال سقوط مصر في حمامات دم. بدا مرسي عنيداً وعازماً على مايقول. وجه رسائله يمنة ويسرى بعضها تهديدياً وبعضها تحريضياً لمناصريه على بذل فداء مماثل بالدم من أجل الشرعية ذاتها. وضعنا مرسي وخطابه هذا أمام عدة أسئلة أقرب للإشكاليات: على أي شيء يراهن مرسي في تحديه لإرادة ملايين المعارضين المشفوعة بإيضاح الجيش إلى أين يقف ومن يساند؟ هل يراهن على ان فكرة التهديد بجر البلاد إلى بحور الدم ستدفع الجيش لإعادة النظر في موقفه أم سترهب المتظاهرين أم يظن حقاً أن جموع المؤيدين تفوق جموع المعارضين ومن ثم فبإمكانهم حسم الأمر في اتجاه تدعيم موقفه وبقائه؟ في كل الأحوال وبينما كانت تفصلنا عن مهلة الثمانية والأربعين ساعة بضع ساعات كان المعارضون قد حسموا أمرهم على ما أسموه تجاوز مرحلة مرسي والأخوان ودعوة الجيش للمضي قدماً في خارطة المستقبل دون إمهال. أما الجيش نفسه فلم ينتظر طويلاً للرد عملياً : استهل الصباح الباكر بتصريح يؤكد رفضه لأي تهديد لأمن المواطنين والبلاد، ثم باجتماع أزمة بين قياداته المختلفة أعقبه بلقاء مع أحد أكبر رموز المعارضة وهو الدكتور محمد البرادعي مؤسس حزب الدستور وأحد قيادات جبهة الإنقاذ (هل يشير ذلك لدور مرتقب للبرادعي في مرحلة مابعد الإخوان أم أمه لمجرد التشاور والاستنارة بآرائه).وفي الأفق ترتيبات للقاءات مماثلة مع كافة رموز القوى لسياسية. لايكفي كل هذا دون ريب للقول باطمئنان أن رهان مرسي خاسر. فالمخاوف من انجرار المؤيدين لدعوته بذل الدماء قائمة بل ومرجحة؛ لم يخف كثيرون شكوكهم في أن خطاب الليل ربما حمل رسائل كودية ترسم آليات التحرك وطبيعته والمستهدفين. على الجانب الآخر فإن استعدادات الجيش وقدرته على احتواء التداعيات المترتبة والمواجهات المرتقبة ليست محل شك ولكنها على الأقل غير معروفة. ولم يبد من الأجهزة الأمنية الأخرى- الشرطة تحديداً- قدرة كبيرةعلى منع وقوع أحداث مؤسفة وسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى في مواجهات بين المؤيدين والمعارضين في أكثر من منطقة ومحافظات مختلفة، على الرغم من الانقلاب الجذري في تعاطي الشرطة مع المتظاهرين وتقبل الشعب لعودة الداخلية إلى صفوفه. من الأسئلة الأخرى التي فرضها المأزق الذي شكله تحدي مرسي: هل تعجل الفريق أول السيسي إعلان بيان القوات المسلحة بما تضمنه من إنذار للرئاسة بإيجاد حل سلمي للأزمة في غضون يومين؟ المؤكد أن البيان كان دافعاً رئيسياً للحركة في اتجاهين: تواصل الزخم الجماهيري المعارض لاستمرار الرئيس في منصبه. هناك من يشتط إلى القول أن التجمعات الهائلة التي احتشدت في 30 يونيو كان مصيرها إلى التناقص التدريجي لولا بيان الجيش الذي بث في الجميع إحساساً باقتراب ساعة الحسم؛ واستنفار جموع من المؤيدين الذين لم يكن في نيتهم النزول إلى الشارع بعيداً عن ميدان رابعة العدوية على الأقل طالما ظل الحال على ماهو عليه. الإجابة الأقرب أن ثمة تعجل ولكنه لا يدخل في إطار التسرع الذي يشير عادة إلى قرارات غير مدروسة. بمعنى أن الجيش كان سيتصرف في كل الأحوال على النحو الذي تصرف به وسينحاز عاجلاً أم آجلاً لجموع الشعب لكنه بكر بإعلان موقفه ومن ثم كان بمثابة تنبيه مبكر للحشود على الجانبين بل ولمؤسسة الرئاسة نفسها. سؤال آخر:هل أخطأ المتحدث العسكري الذي أعاد تفسير بيان الجيش وأخذ ذلك التفسير بعيداً عن فكرة أو احتمال الإنقلاب العسكري؟ ردات الفعل على تفسير البيان تشير إلى أن الجناح المؤيد اعتبر هذا التوضيح بمثابة تراجع من الجيش خيفة الحشود المؤيدة التي فوجئ بتوافدها على الميادين فور صدور البيان. ربما استهدف التوضيح الأطراف الدولية المترقبة أكثر من استهدافه للداخل ( وهي ممارسة ليتنا نتخلص منها) لكن هكذا قرأها المؤيدون. يقودنا هذا إلى سؤال آخر: ماذا يقصد الجيش بالانحياز للشعب أي ماهو تعريفه للشعب؟ أهو المعارضون فحسب أم يتسع ليشمل المؤيدين أيضاً؟ يشكو المؤيدون من أن الجيش ينحاز لطائفة من الشعب مهما اتسعت ويهمل طائفة لا تقل اتساعاً. ويتحتم على الجيش في خارطته للمستقبل ألا يغفل بأي حال عن إشراك المؤيدين شراكة كاملة شأن كافة فئات الشعب. وقد كان إيجابياً أن تشمل مشاورات الجيش قبل انتهاء المهلة قيادات الأحزاب الإسلامية بما فيها الحرية والعدالة لكن المهم أن تسفر عن تسوية مقبولة يلتزم بها الجميع ويقنعوا بها أنصارهم. أخيراً هل ضيع محمد مرسي بخطابه المتحدي فرصة تجنيب البلاد شبح الاقتتال وتجنيب نفسه خروجاً غير كريم وتجنيب جماعة الأخوان الإقصاء والاستبعاد من الساحة السياسية؟ الخطاب كان مأساوياً لكن التطورات تتلاحق بجنون وقد يكون بينها تطوراً يجنبنا جميعا السيناريو المخيف.