كل مرة نطالع فيها الإنجيل بإمعان دون سابق أحكام، نضطر إلى الإقرار بأننا غالبًا ما حاولنا مسخ صورة المسيح، وربما كان من أصعب ما يعترضنا في قراءة الإنجيل، بساطته، فالبساطة فيها قوى متفجرة، لذا نخافها، فهى أبسط من أن يتم تأويلها، لذلك فنحن نعيش في زمن حرج بالنسبة للكنيسة، حيث تضرب أزمة السلطة والطاعة والإيمان والأخلاق والأرجاء بأطنابها في سائر الميادين. والجميع في كل مكان يشعرون بحاجة ماسة إلى مضاعفة الجهود للخروج من هذه الأزمات، ظاهرة كانت أم حقيقية، إلا أنني أخشى في بعض الأحيان، أن تكون هذه الحاجة إلى حلّ الأزمة، رغبة دفينة في الرجوع إلى هدوء الماضي، والهروب مما تجلبه إعادة الأمور على بساط البحث من عدم ارتياح، والتنصّل من الألم الناتج عن كل تقويم في العمق، وعن كل اعتراف دامٍ بأغلاطنا وحدودنا. وفي خضم ظلمات هذه الأزمة، لا يزال المسيح في نظرنا، نحن المسيحيين، النور الأمين: (يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ اَلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ)يوحنا 668.. ولا بد لنا ساعة أن تحتدم الأزمات في تاريخنا المسيحى، من أن نتخطى الأجوبة الفلسفية والثقافية والعلمية وما هو منها على مستوى الإنسان فقط، فهى وحدها لا تكفي، وليكن المسيح جوابنا الحي، وليكن كلمة سهلة بحيث يستطيع كل إنسان أن يقرأها .كلمة عصرية بحيث تساعد في حل كل المشاكل وأشدها خطورة، كلمة تلبى أعمق المتطلبات لدى الذين يبحثون باستمرار، والذين يريدون أجوبة مستحدثة عن مشاكلهم الخاصة، والذين يحلمون بإله يعيش معهم، ويحل مشاكلهم، شريطة أن يظل كما كان، وإلى الأبد، إله المحبة. كثرت المؤلفات اليوم حول ما يسميه بعضهم بأزمة السلطة، فيما يشدد البعض الآخر على أن ثمة أزمة الطاعة، فهذا يقول؛ الرؤساء لا يُطاعون لأنهم لا يحسنون الخدمة، وذاك يجيب؛ المرؤوسون لا يُطيعون لأنهم لا يحسنون التجرّد، علّمنا المسيح مثالاً عمليًا وهو الذي له السلطة والسلطان: قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الَّذِي قَدِ اِغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ. فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاِتَّكَأَ أَيْضاً قَالَ لَهُمْ : أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا اَلسَّيِّدُ وَاَلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ.يوحنا 13: 10, 12 16. وأكد ذلك عندما تقدمت إليه أم ابنى زبدى وسألته أن يجلس أحد أبنائها عن يمينه والآخر عن يساره فأجاب يسوع معلمًا: فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ اَلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَاَلْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ . فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً كَمَا أَنَّ اِبْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ.متى 20: 25 28. لا شك في أن علوم النفس والاجتماع والتربية وسواها، تقوم بدور جادّ مهم في تفهم مظاهر السلطة والطاعة.مما لا ينحصر في النطاق الدينى فحسب؛ بيد أننى أرى أن علم النفس وغيره من العلوم لا يمكنها أن تدلى لنا نحن المسيحيين بالجواب الشافي، فلا بد من اللجوء للمسيح: وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ. وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ. فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِع. متى 23: 8 12.. إن الذى يحب، والذى هو أشد الناس حبًا، هو الذى يستطيع، دون سواه، ممارسة الحكم والخدمة.هذا هو المقياس الواجب اعتماده في اختيار الرؤساء .بيد أنه من المؤسف أن مقاييسنا غالبًا ما تكون على عكس مقاييس المسيح. لذلك احتفظنا بكلمة "رئيس" أفتراه رئيسًا ذاك الذى يتوجب عليه أن يُخدَم من الجماعة؟والمستهجن في الأمر أننا نسعى في أن يكون الرئيس في كل شيء إلا في الشيء الذى شدّد المسيح عليه قبل سواه، وهو المحبّة،ي جب أن تُسدى مقاليد الخدمة في الأبرشيات والكنيسة، إلى من هو المتقدم في المحبة.ولا ضير إن كان أقل تبصرًا من الآخرين، وأقل ثقافة،اللهم إلا إنْ كنا نبغى تغيير الإنجيل والمسيح. البسيط هو الذى لا يستحى بالمجاهرة بالإنجيل، وإنه ليجاهر به كاملاً وفي سائر المناسبات وأمام أى كان،البسيط هو الذى يتبيّن ما هو الجوهرى في كل مسألة ولا يدع العرضى يعرقل مسيره، يوم نتجاسر فنولى على جماعاتنا المسيحية أناسًا من أمثال بطرس ويوحنا وبولس،أناس شريعتهم الوحيدة هى المحبّة،وأسلوبهم الرعوى الوحيد هو البساطة الإنجيلية، أناسًا يشرعون أبوابهم على مصاريعها لكل مخاطرة، ودفاعاً عن الإيمان،ورائدهم ما يرشدهم إليه روح الإله الحى،أناسًا يلتهم حبهم المتأجج العوائق البشرية فيكون نور رجاء وغذاء لكل جائع إلى كلمة الله. يومئذ تزول أزمة السلطة وتزول معها أزمة الطاعة. نحن بحاجة إلى قوة جديدة لنستطيع قراءة الإنجيل بعين الأطفال وقلوبهم،وما هى في الحقيقة سوى عينى إله المسيحيين وقلبه: )كَأَطْفَالٍ مَوْلُودِينَ الآنَ اشْتَهُوا اللَّبَنَ الْعَقْلِيَّ الْعَدِيمَ الْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ)) (1)بطرس 2: 1, 2(