سعت مصر إلى تأمين احتياجاتها المائية وذلك عبر آليتين. أولهما توقيع الاتفاقات والمعاهدات التى تؤمن الحصة المصرية من مياه النيل، وتضمن حقوقها التاريخية والمكتسبة. وثانيهما، إقامة مشروعات وأطر تعاونية مع دول حوض النيل. بالرغم من الجهود التى بذلتها مصر للوصول إلى إطار قانونى يقنن أسس الانتفاع بموارد نهر النيل، وتدشين مشروعات تعاونية تعظم الاستفادة من تلك الموارد، إلا أن تباين مواقف دول حوض النيل بشأن الالتزام بالاتفاقات القانونية الموقعة خلال العهد الاستعمارى أو حتى بعد الاستقلال، وإخفاق المشروعات التعاونية فى تحقيق الأهداف المتوخاة منها، ظل يمثل نقطة ضعف أساسية فى النظام الهيدروليكى لحوض نهر النيل، وعلى ذلك اقترحت مصر إنشاء آلية شاملة لتنظيم التعاون بين دول حوض النيل. فى هذا الإطار، طرحت مصر إنشاء ما يسمي ب " مبادرة حوض النيل ". وبالفعل توصل وزراء دول الحوض إلى اتفاق مبدئى على تدشين هذه المبادرة، التى أعلن عن ميلادها من العاصمة التنزانية دار السلام فى فبراير 1999. وانضمت إليها كل دول حوض النيل العشرة، باستثناء إريتريا، التىشاركت كعضو مراقب. تبنت المبادرة هدفاً أساسياً تسعى للوصول إليه وهو " تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال الانتفاع العادل والاستفادة المنصفة من الموارد المائية المشتركة لحوض نهر النيل ". واستناداً إلى هذا الهدف العام، وضعت المبادرة مجموعة الأهداف الأولية أهمها: التنمية المتواصلة والعادلة للموارد المائية لدول الحوض ، وضمان الإدارة الفعالة للمياه، وتشجيع التعاون بين دول الحوض، بما يحقق النفع المتبادل للجميع، وتحقيق التكامل الاقتصادى، ومحاربة الفقر، وضمان الانتقال من مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ ". قوبلت المبادرة بقدر كبير من التفاؤل، خاصة أنها تستند إلى مبادئ الاستخدام العادل لموارد نهر النيل المائية والطبيعية، وأن المياه حق لكل دولة من دول الحوض. كما تم الاتفاق على أن تكون الاستفادة من أى مشروع فى إطارها من نصيب دولتين على الأقل من دول الحوض. إضافة إلى ذلك، فإن المبادرة لم تقتصر على مجرد إقامة مشروعات مائية متناثرة هنا أو هناك,وإنما عبرت عن رؤية استراتيجية استهدفت ربط مصالح دول حوض النيل ببعضها البعض ،من خلال مجموعة من المشروعات التنموية ذات المنفعة المشتركة لأكثر من دولة في قطاعات عديدة أخرى أهمها: الطاقة، والري، والزراعة، والثروة السمكية، والملاحة النهرية، وبناء القدرات والتدريب، وغيرها. كما نظر البعض إلى المبادرة باعتبارها خطوة مهمة فى طريق تحويل العلاقات المائية بين دول حوض النيل من الطابع الفني إلي الطابع السياسى، ومن ثم حظيت المبادرة بدعم حكومى واضح من جانب دول الحوض. وقد حرصت مصر على تعميق الثقة فيما بينها وبين أعضاء المبادرة، وإزالة أى قدر من الشك والريبة فى جدواها، ونفى الأفكار التى دأبت بعض الجهات على الترويج لها حول أن مصر هى المستفيد الأكبر من أى مشروعات أو أطر تنظيمية تقام فى حوض النيل. انعكس ذلك على الهيكل التنظيمى للمبادرة، الذى يشمل ثلاثة أجهزة هى: المجلس الوزارى، واللجنة الفنية الاستشارية، والسكرتارية الفنية. وقد ضم المجلس الوزارى جميع وزراء الموارد المائية فى حوض النيل، كما تقرر أن يعقد اجتماعاً واحداً سنوياً، وأن تكون رئاسته دورية. أما اللجنة الفنية الاستشارية، فتمثل جميع دول الحوض، وتتولى إعداد الدراسات وتقديم التوصيات للمجلس الوزارى بشأن المشروعات المستهدفة، وتجتمع كل شهرين أو ثلاثة على الأكثر، وتكون رئاستها دورية، وبالنسبة للسكرتارية الفنية، فقد اختيرت مدينة عنتيبى الأوغندية مقراً لها. كما اختير السيد " معراجى موسويا " – وهو تنزانى الأصل – سكرتيراً تنفيذياً للمبادرة. وتم الاتفاق أيضاً على تشكيل مجموعات عمل وطنية تابعة للمبادرة، على المستوى الفنى المائى، داخل كل دولة من الدول الأعضاء. وقد تبنت المبادرة " برنامج عمل استراتيجى "، ينطوى على مشروعات عديدة، تتوزع على برنامجين متكاملين هما: برنامج مشروعات الرؤية المشتركة، وبرنامج مشروعات الأحواض الفرعية. استهدف البرنامج الأول، إعداد دراسات جدوى من أجل صياغة وتطوير المشروعات على المستوى الكلى لحوض النهر، وذلك فى سبعة قطاعات ترتبط بقضية المياه وهى: البيئة، والطاقة، والاستخدام الأمثل للمياه للإنتاج الزراعى، وإدارة وتخطيط موارد المياه، وبناء الثقة، والتدريب التطبيقى، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. أما البرنامج الثانى، فقد عنى بتطبيق المشروعات على المستوى الجزئى، وذلك فى حوضين فرعيين هما: حوض النيل الشرقى " سبعة مشروعات" ، وحوض النيل الجنوبى (البحيرات الاستوائية) " اثنى عشر مشروعاً ". بالنسبة للمشروعات المقترحة فى حوض النيل الشرقى هى: مشروع الإدارة المتكاملة لتخطيط الموارد المائية، وتنمية حوض نهر البارو-اكوبو، وإدارة الفيضانات ونظم الإنذار المبكر، وتنمية الطاقة الكهرومائية والربط الكهربائى، ومشروعات الرى والصرف، وإنشاء وحدة لإدارة المشروعات المقترحة فى النيل الشرقى. أما المشروعات المقترحة فى حوض النيل الجنوبى، فتتعلق بقطاعين اساسيين هما: تطوير المصادر الطبيعية، والربط الكهربائى بين دول الحوض الجنوبى. حيث تتضمن مشروعات تطوير المصادر الطبيعية مشروعات تطوير الإدارة والموارد فى كل من بحيرتى ألبرت، وادوارد، وأنهار مارا وكاجيرا، وأحواض ماليكس- مبالا- سيو. أما مشروعات الربط الكهربائى، فتتضمن مشروع توليد الطاقة من مساقط روسومو، ومشروعات الربط الكهربائى بين كينيا وأوغندا، وكذا الربط بين رواندا وبوروندى والكونغو الديموقراطية، والربط بين رواندا وبوروندى، وأيضاً الربط بين اوغندا وبوروندى. وتم الاتفاق على أن تستغرق مدة دراسة الجدوى لكل مشروع من مشروعات المبادرة ما بين ثلاث إلى ست سنوات، وذلك بتكلفة مقدرة تبلغ 130مليون دولار بالنسبة لمشروعات الرؤية المشتركة، و49 مليون دولار بالنسبة لمشروعات النيل الشرقى، و30 مليون دولار، بالنسبة لمشروعات النيل الجنوبى. وبالرغم من الجهود التى بذلت لتفعيل المبادرة، وتنفيذ مشروعاتها، إلا أن كثيرا من المشروعات التى انطوت عليها لم تجد سبيلها إلى التنفيذ. ولم يتجاوز الأمر إجراء بعض دراسات الجدوى المستهدفة، ويعود ذلك إلى عدد من العوامل هى: 1- الصراعات والحروب الأهلية فى دول الحوض ، ومن ذلك الحرب الأهلية فى كل من رواندا وبورندي, والكونغوالديموقراطية, والصراعات فى جنوب السودان وإقليم دار فور، وهو ما عرقل تنفيذ كثير من المشروعات المستهدفة فى مبادرة حوض النيل، خاصة فى ظل التردى الأمنى فى بعض المناطق التى اختيرت لإجراء دراسات الجدوى الخاصة بتلك المشروعات. 2 - النزاعات الحدودية والتوترات السياسية بين دول حوض النيل، حيث ألقى النزاع الحدودى بين إثيوبيا وإريتريا الذى اندلع منذ عام 1998 بظلال وخيمة على الاستقرار السياسى والأمنى فى إقليم حوض النيل، وهو ما ينطبق أيضاً على التوترات السياسية التى كانت تحدث من آن لآخر بين إثيوبيا والسودان. وينطبق الأمر ذاته على إقليم البحيرات العظمى، الذى يفتقد الاستقرار السياسى والأمنى منذ العام 1998، نتيجة لاندلاع الحرب الأهلية فى الكونغو الديموقراطية. 3 - موقف دول حوض النيل من الاتفاقيات التى تحدد أنصبة كل من مصر والسودان فى مياه النيل، خاصة اتفاقيتى 1929، و1959. حيث ترفض دول المنابع هذا الاتفاقيات، بدعوى أن الدول الاستعمارية هى التى وقعتها نيابة عنها. وأنها باتت فى حاجة ماسة إلى كميات إضافية من المياه لمواجهة احتياجاتها التنموية، والزيادة السكانية فيها. ووصل الأمر إلى حد المطالبة باعتبار المياه سلعة تماثل النفط، ومطالبة مصر والسودان بدفع ثمن ما تستخدمه من مياه النيل، والتأكيد على اعتزامها إقامة مشروعاتها المائية بدون الالتزام بشرط الإخطار المسبق. 4 - لجوء دول حوض النيل إلى استثمار قضية المياه، باعتبارها قضية رأي عام لدى شعوب دول المنابع, وذلك بتسييس القضية، من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة، مثل اكتساب الشرعية السياسية، أو حشد تأييد الناخبين فى الانتخابات العامة، أو صرف انتباه مواطنيها بعيداً على المشكلات الداخلية الحقيقية. 5 - تركيز دول حوض النيل بشكل أكبر على الجانب الفنى على حساب الجانبين السياسى الاقتصادى. كما كان التركيز أكبر أيضاً على الجانب الرسمى على حساب الجانب الشعبى. وقد ازداد الأمر سوءاً فى ظل غياب التواصل بين قادة دول حوض النيل وبين الفنيين المعنيين بالمفاوضات فى بعض مراحل التفاوض, مما ساهم فى تعقد العملية التفاوضية بشأن تنفيذ مشروعات المبادرة، وكذا بشأن مشروع الاتفاقية الإطارية لمبادرة حوضالنيل. 6- ضغوط القوى الأجنبية، وفى مقدمتها إسرائيل بالطبع، حيث تطمع إسرائيل فى الحصول على حصة من مياه نهر النيل، تقدر مبدئياً بمليار متر مكعب سنوياً، مرشحة للزيادة، وذلك لمجابهة احتياجاتها المائية المتزايدة، لأغراض الرى، والتوسع الاستيطانى. وفى ظل رفض مصر لاستخدام مياه النيل خارج حوض النيل، لجات إسرائيل إلى محاصرة مصر، عبر تأليب دول المنابع ضدها، طمعاً فى أن تحصل من خلال " المحاصرة " على ما لم تستطع الحصول عليه عبر سياسة " المحاصصة ". وقد ساهمت هذه العوامل فى حدوث استقطاب فى المواقف بين مصر والسودان من جهة ، ودول المنابع من جهة أخرى، الأمر الذى دفع الأخيرة إلى التوقيع بشكل منفرد على اتفاق جديد لتقنين الأوضاع والعلاقات بين دول حوض النيل، وهو (اتفاق عنتيى) ، الذى شكل ضربة قوية لمبادرة حوض النيل، وهو ما يقتضى تناوله بقدر أكبر من التفصيل فى مقال لاحق.
---------------------- مدرس العلوم السياسية - نائب مدير مركز الدراسات السودانية - جامعة القاهرة