حين دخلنا شارع الهرم لحضور حفلة الموسيقار العالمى يانى، لاحظنا على الفور أن الشارع من منطقة ميناهاوس والأهرامات شبه مغسول، وأن الضباط يرتدون بدلاً بيضاء مكوية بعناية والعساكر يضعون جواكت فوسفورية فوقها تبدو جديدة تماما. لاحظ عبد العزيز سائق العربة الأجرة التى أقلتنا هذا، فسألنى على الفور، "أنا شايف الدنيا مرشقة أمن مركزى، هى الحفلة اللى إنتو رايحينها دى حاجة كبيرة كده؟ ده إحنا ما بنشوفش العساكر دى فى الشوارع خلاص! يكونش حفلة لجمهور نادى الزمالك؟" " لا ياعم عبد العزيز، حفلة لموسيقار عالمى جاى مصر لأول مرة" "طب وده وقته يعنى ده إحنا لسه خارجين من قرف الإنتخابات؟ ثم إن العساكر دى مش بتنزل الشارع تشوف شغلها ليه من غير يانّى ولا كانّى ولا دكان الزلبانّى؟" " ياراجل ده دعاية للسياحة فى مصر لا تقدر بتمن! ده حيغنى تحت الأهرام وأبو الهول، ووجوده يعنى البلد بخير وزى الفل، وحيجيب معاه كام ألف سايح من اللى مش بيفوتوا له حفلة. يعنى م الآخر الراجل ده نشيله على راسنا وندعى له بالسلامة فى كل خطوة مش نقعد نقر بقى ونطلع سم؟ يعنى حتنبسط لما يحصل حاجة وحشة وشكلنا يبقى زفت؟" "ده اسمه ايه ده يا مدام؟" "يانى" " آه أنا سمعت الإسم ده النهاردة بس مش فاكر فين؟" يصمت عبد العزيز وندخل فى مدخل الأهرام وسط مئات السيارات وعشرات الوقفات للتفتيش والتأكد من وجود تذاكر. " هو ده اللى متصور جنب السيسى يا أبلة؟" سأل عبد العزيز بخبث وهو يشير إلى صورة الرئيس وبجانبه وزير السياحة. لا يا عبد العزيز. وهو الريس حيتصور معاه ليه؟" " مش حضرتك قلتى إنه حيفيد السياحة وكده؟ طب ما ده أولى يتكرم!" لا يا سيدى مش للدرجة دى. ثم هو الريس فاضى! الناس حتقوم بالواجب. طلع رخصك بقى علشان الباشا حيشوفها وبطل كلام!" يصمت عبد العزيز على مضض وهو يتمتم بإسم يانّى بطريقة ساخرة بينه وبين نفسه بينما أنا أستدعى فى ذهنى ما أعرفه عنه ولا أستطيع شرحه لعبد العزيز, كيف أخبره ان هذا الفنان اليونانى الأمريكى سجل أعلى بيع لإسطوانات فى التاريخ ببيع 7 مليون نسخة لحفلة واحدة؟ وأنه حقق الشهرة حين قرر أن يقدم عروضه فى تاج محل، برج خليفة، الكرملين ، مسرح قرطاج وهكذا؟ كيف أن له رسالة تسامح عميقة ينقلها من خلال موسيقاه التى يمزج فيها بين موسيقى الروك الخفيف، الجاز، الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى العرقية للشعوب المختلفة؟ فنان حقيقى قدم عمره كله لفنه وأحاط نفسه بأمهر العازفين فى كل مجال فاستحق لفب "عالمى". لكننى لم افعل وإنما استدعيت آخر رحلة لى ولأسرتى فى الأهرام وكيف ملأتنى المرارة من حال الأحصنة والعربات ولزوجة العاملين هناك. هل يروج يانى للسياحة وندمرها نحن بكل الطرق؟ إن لم يكن بالإرهاب فيكون بالإهمال؟ تتركنا العربة الأجرة بعبد العزيز مرغمة وننزل منها لركوب اتوبيسات مخصصة لنقل الناس عبر مطلع يٌقدر بالكيلومترات. الزحام شديد والعربات تسير واحدة تلو الأخرى فى المطلع العالى. كان كل من فى الأتوبيس من عشاق يانّى، أى "سميعة" موسيقى راقية وكان هذا يبدو على نسقهم اللغوى وملابسهم وتضحياتهم بثمن التذكرة العالى. ومع هذا لم نكتم ضحكاتنا ولا إستمتاعنا وسائق الأتوبيس يبحث فى الأغانى ليختار أغنية شعبية " مافيش صاحب بيتصاحب!" نظرت لوجهه فى المرآة وهو يبتسم وشعرت أنه يرسل لنا رسالة " زى القرع تمدوا لبره!" أنظر إلى العربات المصفوفة خلف بعضها على المطلع الطويل وأتساءل هل تم حساب الوقت المطلوب للجلوس فى المسرح مقارنة بالكثافة الحضورية؟ مكتوب على التذكرة الحضور قبل الميعاد بساعة ونصف وحضرنا نحن قبل الميعاد بساعتين ومع هذا لم يعد يتبقى سوى أربعين دقيقة ولازلنا فى الأتوبيس! ألن نتعلم أن نفكر فى تفاصيل ما وراء التفاصيل؟ شغلنى سحر الأهرامات الليلى عن الاستغراق فى مأساة الزحام.كانت المرة الأولى التى أمر فيها بجانب الأهرام ليلا وأراها مضيئة عن قرب ووجدتها ساحرة بشكل لافت للنظر جعلنى أفكر لماذا لايٌعاد فتحها ليلاً بظروف أمنية خاصة ، تٌزيد الدخل وتنعش السياحة؟ "الاهرامات كانت مفتوحة بالليل بس حصلت فيها حاجات مخلة بالاداب وقفلوها؟" ردت على صديقتى المرشدة السياحية. " طب ما المكان يتأمن؟" " الحقيقة اللى كانوا بيأمنوها هم بالضبط اللى كانوا بيسهلوا الأعمال المخلة بالآداب!" حين وصلنا المسرح وبعد المزيد من التفتيش وصلنا للمكان المخصص لسعر تذاكرنا أنا وإبنى، التذكرة ذات الألف. إدخر الولد مصروفه وعيدياته فى عيدين وهدايا تفوقه فى الثانوية العامة النقدية على مدار ثلاثة شهور حتى يستطيع أن يسمع أحد موسيقييه المحببين. يبدأ سلم التذاكر ب600 ج، ثم الألف، الفين، ثلاثة. لكن لأننا وصلنا متأخراً لم نجد سوى أسوأ الكراسى وأبعدها لأن صفوف الكراسى لم تكن متراتبة بشكل هرمى حقيقى، فلم تكن المشكلة فى بٌعد الكرسى عن المسرح لكن فى أن رؤوس الجالسين أمامنا تعيق رؤية المسرح والشاشات المعلقة التى كانت منخفضة المستوى. " يعنى ياماما كنت عاوزة منظمين الحفلة يجربوا توقيت طلوع المطلع فى الزحام علشان يحسبوا الوقت اللازم وكمان يجربوا إرتفاعات الكراسى والشاشات علشان الرؤية؟ ليه؟ هو إحنا فى أوروبا؟" صمتت وانا أنظر إلى المنظر المهيب أمامى ، أهرامات ثلاثة وأبو الهول. ماذا؟ يوجد هرم رابع أيضا؟ " مش رابع بس؟ دول عشر اهرامات بعضها إندثر وبعضها لسه موجود. ورا الهرم الرابع ده تلات اهرامات كمان بس ورا بعض" كان هذا رد صديقتى الخبيرة. يا لجمال الماضى وعظمته. إذن فنحن نستطيع. هل المشكلة أن المصريين غابت إرادتهم؟ ام المشكلة ان المصريين تعودوا على نظام الفراعنة الدقيق والجامد لينجزوا؟ "خلينا بقى قاعدين كده مش شايفين حاجة! كنا شفناها يوتيوب بعد سنة وخلاص!" " طب بص يا فقرى! العمارتين اللى ورانا دول كاشفين الصورة كلها أحسن منا مليون مرة، وقاعدين فوق السطوح جايبين عصاير ولب وسودانى وأكياس شيبسى حجم عائلى، حاجة كده حسبة 50 جنيه ولو الحكاية زهزهت حييجبوا وجبات مفرحة من ماكدونالدز وتبقى قٌضيت!" " أرزاااااااااااااااااااااااااااااااااق أ ماما!" لكن حين بدأ الحفل، وظهر على الشاشات وجه يانّى، لمحت رغم الصعوبة كيف كبر سنه وكيف حفرت على وجهه السنوات والموهبة. وجه حقيقى لإنسان ذو رسالة. تفاعل الجميع بغض النظرعن مجال الرؤية، فيانّى وفرقته الموسيقية على مستوى عال من الإحتراف يجعل ترتيب المكان على جوانب الصوت والتأثير رائعاً. الأجمل من هذا الروح الرائعة التى سادت المكان ولم يكن لها تفسير سوى الحب. بدأ يانّى كلامه بأنه هنا كرسالة للسلام والحب والتسامح ويرجو أن نقبله كما يقبلنا ويثق فى عظمتنا ومستقبلنا فبحسب كلامه شخصياً كان حلمه الوحيد منذ إثنين وعشرين عاماً أن يعزف موسيقاه تحت كل الأماكن الأثرية العتيقة فى العالم. بدأها بالعزف تحت الأكروبوليس وإكتمل حلمه الليلة بالعزف تحت الأهرام. والتى كان ينطقها وهو ينظر حوله بإنبهار حقيقى. " والله كتر خيره، كلمتين حلوين ما نستحقهمش يعنى!" " يا إبنى والله إحنا شعب جبار، بس محتاجين حماس وقوة داخلية نتغير، ننفض التراب من على قلوبنا ونفوق لنفسنا بقى! ما فيش فساد ساعتها يقدر يقف ادامنا لو خلٌصت النوايا ولا فى نظام يقدر يقهرنا لو عرفنا طريقنا صح!" لم يكن أداء يانى العاطفى تجاه الجمهور ومصر تجارياً، بل كان حقيقياً ولهذا لمس قلوب كل من حضر والذين هم من الأساس من محبيه، وحين تفاعلوا معه كما لم يرَ من قبل، كان مسحوراً فأضاف مقطوعتين موسيقيتين بعد أن كان قد ترك المسرح وارتدى فيهما علم مصر على أكتافه وأطلق الألعاب النارية فى السماء وكأنه يحتفل بنا. " والنبى بيحتفل بينا على إيه بس؟" " إعتبرها احتفال على اعتبار ما سيكون! أكيد فى يوم ربنا حيكرمنا ونعرف قدرنا!" " انتم شعب مذهل وعظيم" كانت هذه آخر كلمات يانى على المسرح الذى تركناه وقد إمتلأنا بطاقة إيجابية دافئة. من شارع نزلة السمان المزدحم بالعساكر والضباط مشينا بحثاً عن تاكسى. رأينا أمامنا عربة ملاكى ترجع للخلف ، فى وسط الشارع. عاجله احد الضباط بشتيمة قاسية! وقفت مذهولة وودت لو صرخت فيهما " انتم الإتنين غلط، انتو الإتنين غلط. هو يرجع ورا فى نص الشارع غلط وانت تشتمه غلط، خد رخصته" لكننى لم أتكلم لأن ابنى شعر بما فى صدرى فسحبنى بعيداً بسرعة وأدخلنى فى تاكسى وشغل لى قطعة موسيقية على اليوتيوب ليانّى وهو يقول: " إرجعى للمود الحلو الله يكرمك لحد ماتجهزى لى العشا!!!" ياني خلال حفل الأهرامات ياني خلال حفل الأهرامات من الحفل من الحفل من حفل ياني على سفح الأهرامات من حفل ياني على سفح الأهرامات لقطات من الحفل ياني يتحدث لقطات من الحفل ياني يتحدث من حفل ياني - اطلاق ألعاب نارية من حفل ياني - اطلاق ألعاب نارية