كانت معرفتي بالأستاذ محمد سيد احمد من خلال قراءاتي وتتبعي مقالاته السياسية والفكرية منذ منتصف الستينات ووعيي بتاريخه النضالي وعقيدته الماركسية وفترات الاعتقال والسجن التي تعرض لها قبل ثورة يوليو وبعدها، وقد ظل محمد سيد احمد واحدا من الكتاب الذين احرص علي تتبع مقالاتهم في الصحف والدوريات المختلفة ، وجذبني اليه عمق تحليلاته واتساع رؤيته للقضايا اولما كان يسميه "المعضلات العصرية"، غير ان هذه الصحبة قد انتقلت من الورق الي المعرفة الشخصية عند تأسيس المجلس المصري للشئون الخارجية عام 1999 وكان محمد سيد احمد احد مؤسسيه، ومن خلال اجتماعات المجلس وعلي مدي السنوات التالية راقبت مساهماته الفكرية المتدفقة خلال مناقشات المجلس للقضايا الاقليمية والدولية المختلفة، وقد لاحظت انه يصبح اكثر تألقا في اللقاءات والحوارات التي تضم شخصيات ووفوداً اجنبية وحيث جذبهم بأفكاره الجديدة وغير التقليدية التي كان يطرحها. وبحكم مسئوليتي وعملي اليومي كنت دائم اللجوء اليه ونحن بصدد الترتيب لمؤتمرات أو ندوات أو الاعداد لاستقبال وفود أجنبية حيث كان حماسه واقباله، فلم يتخلف يوما عن اجتماعات المجلس ومناقشاته، وكان هوالذي حدد الاطار الفكري لعمل المجلس حين وصفه بأنه "ليس مجلسا حكوميا كما انه ليس معارضا". كذلك ربما كنت من اكثر من شعروا بغيابه عندما فاجأنا برحيله حيث كان بيننا منذ ايام يتفجر حيوية ومشاركة وقد حاول المجلس ان يصدر كتابا تذكاريا عنه يسجل لمراحل حياته المختلفة ، وعقدت بالفعل اجتماعات في منزله مع السيدة مايسة طلعت زوجته وكان مقدرا ان يتولي الاستاذ هاني شكر الله تحرير هذا الكتاب غير انه يبدو ان وقته لم يسمح بذلك لذلك لم يكن غريبا فرحتي بهذا الكتاب "محمد سيد أحمد : لمحات من حياة غنية" الذي اصدرته دار الشروق، والذي اعدته وقامت بتحريره الاستاذة مني عبد العظيم انيس، ونستطيع ان نفهم قيامها بهذا العمل حيث كان والدها الدكتور عبد العظيم انيس رفيقا لمحمد سيد احمد في تجربة الاعتقال والسجن فضلا عن الايدولوجية التي كانت تجمعهما وتخصصهما في الرياضيات. جوهر الموضوع وقد قدم الأستاذ محمد حسنين هيكل للكتاب بمقدمة فلسفية عن غياب أو رحيل الزملاء والاصدقاء وعن خبرته وانطباعاته عن محمد سيد احمد واسلوبه في الحوار وحيث انه كان يتحفظ علي ما يسمع فورا ليعطي لنفسه فرصة، يسأل ويلح في السؤال، ثم يظهر اهتمامه ثم اذا هو يمسك بجوهر الموضوع وبعدها يتجلي استعداده للألفة مع كل جديد لكنه برغم ذلك لا يتوقف عن الحوار ...واصراره علي فحص كل مقدمة، ومراجعة كل مقولة وتحليل كل مضمون. وباعتبار ان الاسرة، الزوجة والابناء هم الاكثر معايشة للراحل وقربا منه وادراكا لخصائصه الفكرية والشخصية، فقد خصص الكتاب قسما للشهادات او الذكريات العائلية. اما القسم الثاني من الكتاب فيخصص " لسنوات الصراع" ويبدأ بزميل الليسيه الفرنسية "البير ابيه" الذي سيرافقه منذ سنوات الدراسة الاولي في الليسيه في الثلاثينات، وارتباطهما بالتجربة الشيوعية عام 1944 وتعرفهما علي الماركسية سويا وتجنيدهما في الحركة واندراجهما في القضية الوطنية، ثم اختفاء محمد سيد احمد لكي يمارس العمل السري داخل منظمة "م.ش.م."، ثم معاودة الالتقاء بعد افتراقهما لدي دخولهما الجامعة,فقد كانا في سجن مصر في يناير 1959 وحيث عادا اصدقاء من جديد واستمر هذا حتي خرجا الي الحرية عام 1964 وبقيت صلة الود لا تنقطع . اما الشهادة الثانية فيقدمها المفكر والمناضل الوطني انور عبد الملك وحيث يسجل في شهادته ثلاثة مشاهد، كان الاول عام 1922 حيث تعرف هو ومحمد سيد احمد واخرون علي الفلسفة الماركسية وحيث كانت مصر تشهد في تلك الفترة تيارا ثوريا يجتذب جيلا جديدا من الشباب الوطني التقدمي، وكان المشهد الثاني في يوليو1946 حيث بدأت موجة من القمع العنيف قام بها رئيس الوزراء انذاك اسماعيل صدقي باشا، زوج عمة محمد سيد احمد، وفي اجواء الاعتقالات التي كانت تجري قررت عائلة محمد سيد احمد ان ترسل به الي انجلترا لكي يستكمل دراسته وكان الهدف الحقيقي هو ابعاده عن مصر لتجنب اعتقاله ولكن محمد ابي ان يمتثل لارادة اهله وظل مختفيا عنهم وعن البوليس في مصر لمدة عامين مارس خلالهما العمل السري حتي تم القبض عليه عام 1950 اما المشهد الثالث فكان في القاهرة في ابريل 1964, حين تمت تصفية المعتقلات من الشيوعيين وبعد تفتيت الحركة التقدمية وانتجت بعض المتنفسات بداية من إصدار مجلة "الطليعة" الشهرية وحتي تأسيس حزب التجمع اليساري بعد اكتوبر 1973 وفي هذه المرحلة الجديدة انغمس محمد سيد احمد في دراسة تعقيدات السياسية الدولية مع الاهتمام بالتفاعل بين المتغيرات علي الساحة الدولية التي تؤثر علي الامن القومي لمصر واستقلالها. البركان وتحديات فكرية وايدولوجية ، اما الشرق فلم يكن من مرجعياته الاساسية. أما "البركان" الذي فجره محمد سيد احمد كتابه "عندما تسكت المدافع"، فقد رأه تفاعلا مع تحولات اقليمية وكونية، واوضاع مصرية اقتصادية ومعنوية متردية وصحوة دينية وأخري يمينية في مصر وسقوط منظومة القيم بها والاندفاع نحومستقبل بدا لكثيرين مظلما. اما الفصل الثالث فيخصصه الكتاب لكلمات نخبة من مجموعة من الشخصيات الاجنبية الذين عرفوا بشكل مباشر محمد سيد احمد والتقوا به في العديد من المؤتمرات، والندوات وورش العمل . كان من هؤلاء ريتشارد فولك الذي لخص فكر محمد سيد احمد "فما بعد ايدولوجية الالتزام السياسي"، وكيف تناول وفكر في هذا الاطار في عدد من القضايا مثل الصراع العربي الاسرائيلي واحداث 11 سبتمبر وصراع الحضارات كما فهمه صمويل هنتنجتون، أما صديقه اريك رولو فقد اعتبر ان محمد سيد احمد كان رجلا فريدا من نوعه ولم يدرك ان تواضعه كان يثير العجب وكذلك بساطته وتعاطفه التلقائي مع كل من تحاور معهم ايا كانوا، وباعتباره رجل الحوار كان يتسم بالفضول والرغبة في معرفة كل شيء، وكان تفهمه لاراء تختلف عن رأيه يرجع الي سعة افقه ولكنه لم يكن يتنازل بسهولة عما يعتقد لان معتقداته كانت قائمة علي تجربته الشخصية ومتابعته المستمرة لمسرح الاحداث العالمية وكذلك علي قواعد الجغرافيا السياسية والقراءات المتعددة والاستماع باهتمام الي الاخرين اما كلوفيس مقصود فيعتبر محمد سيد احمد قد ساهم في اثراء الثقافة القومية من خلال التزامه واعتماده الدقة في التعبير والوضوح في التفكير والاستقامة في المبدأ..وامامه تشعر انك امام مرجع تجاوز تعريفه كمفكر اوصحفي اوكاتب اومحلل اومحاور لانه يعني هذا الكل المتداخل بعضوية الاستطلاع والاستعداد الذهني لتعديل اوتغيير المواقف اذا اقتنع بصوابية النقد، ومن هنا كان رفضه السفر الي كوبنهاجن بعد ان استمع واقتنع بآراء المعارضين لها. وتركز كريمته مروة علي الجانب الفكري في شخصية وسيرة محمد سيد احمد فقد كان علي امتداد حياته مفكرا يساريا مبدعا متحررا من نمطية التفكير الذي ساد في صفوف الحركة الشيوعية وأبقاها خارج التأثير في المجتمعات العربية..فقد أدرك محمد مبكرا ان علي اليسار عموما، واليسار الشيوعي خصوصا، ان يحدث تغيير جوهري في افكاره وسياساته وفي اشكال عمله ونشاطه وفي صيغة تنظيمه، وكان يري ان احداثا كبري وتحولات بالغة الخطورة كانت تجري علي الصعيد العالمي. الي جانب هذه الشخصيات الاجنبية، يسجل عدد من الشخصيات العربية التي عرفت محمد سيد احمد وشاركته واختلفت معه في بعض ارائه، فيصفه حسين عبد الرازق "بالباحث عن الحقيقة ويعدد خصائصه من الاحساس بالواجب ، وعدم معرفته الكراهية، وتألق عقليته التعددية وجرأته الفكرية وبحثه عن الجديد وعن الحلول للتناقضات الفكرية ورغم الضربات والنكسات التي تلقتها الحركة الاشتراكية، الا انه لم يفقد ايمانه بها مع رفضه الدائم للجمود وخنقها في قوالب مصبوبة. اما رشدي سعيد فقد وصفه "بالقديس"، اما مني مكرم عبيد فقد أعتبرته "حالة خاصة" ، وركز محمود عبد الفضيل علي نزاهته الفكرية المفرطة والاستعداد الفوري للتنازل عن رأي او وجهة نظر حملها لمدة طويلة اوقصيرة اذا اكتشف خطأها أو زيف الاسس النظرية والفكرية التي استندت اليها رؤيته، أما هاني شكر الله فقد وصفه "بالباحث عن الحقيقة"، وسجل سمير مرقص صفات ثلاث يتصف بها محمد سيد احمد : "التفكير غير النمطي" ، "الموسوعة"، "استشراق المستقبل". اما ياسر علوي فقد اعتبر ان عمر محمد سيد احمد كان عمرا من الخيارات ابرزها كان خياره الاشتراكي، هذا فضلا عن عدد من الخيارات التي اكتسبها في مسيرته الفكرية وان كان لم يبلورها. شهادات اما الفصل الرابع والاخير فيخصص لشهادات محمد سيد احمد نفسه، وبوجه خاص حول تاريخ الحركة الشيوعية المصرية وتنظيمها في الاربعينات، وعن وحدة المنظمات الشيوعية وانقسامها، وعن دور اليهود في الحركة الشيوعية المصرية، وموقف الحركة من القضية الفلسطينية، ومواقف الشيوعيين من عبد الناصر والقومية العربية ومدي الولاء للاتحاد السوفيتي، وعن عدم الديمقراطية داخل الحزب، وتعزيز مصير الحركة الشيوعية دون اشتراك كوادر الحركة الشيوعية انفسهم. وهكذا فاننا لسنا فقط امام مسيرة حياة مناضل ومفكر، ولكن امام عصر كامل من التفاعلات المصرية والعالمية كما تجادل معها عقل دائب الحركة والتساؤل واستبصار المستقبل.