لاتقاس قيمة الانسان الاجتماعية وقامته الثقافية بكم مايحققه من اعترافات بتميزه أو شهادات تقدير لأعماله أو دروع تكريم تحتفي به، بقدر ماتقاس بمدي عطائه لمجتمعه وللناس من قيم التنوير ومفاتيح الرؤية ومشاعل البحث عن الحقيقة وسط دروب الثقافة ودهاليز الفن وخبايا الأدب.. وفي هذه الرحلة الفكرية الشاقة التي تستنزف صاحبها الوقت والعرق والجهد والدم في بعض الأحيان وتعرضه لضغوطات من كل حدب وصوب، وتصويب سهام الحقد والكراهية للنيل منه، نجد فارس الرحلة وربان سفينتها يتعرض لكل أنواع الأذي والبلاء ويقع في مواجهة شرسة مع حفنة من المتنطعين ومأجوري الفكر الرجعي المتخلف، الداعين لتجريم حرية الرأي وتحريم الابداع، ظنا منهم بأنهم الأوصياء علي مقدرات العباد وحامين حمي البلاد، وهم بالتأكيد واهمون ومخادعون لأنفسهم قبل أن يخدعوا الآخرين. وهذه حقيقة الصدام بين تيارات الوعي ودعوات التخلف، في وقت أحوج مانكون فيه لأعمال العقل وتغليب المنطق والتحلي بالحكمة، فعالم اليوم ينطلق من تكنولوجيا "الفيمتو ثاتية"، وغزو الفضاء، وعصر الربوت، وعلوم الحاسب الآلي وتطبيقاتها، وتكنولوجيا الاتصالات وال "بلاك بيري"، والمفاعلات النووية، والزراعة بالأنسجة، وقهر السرطان بذرات الذهب، وتحلية مياه البحر المالحة.. أين نحن من كل هذه الانجازات البشرية التي تخلفنا عنها تماما ووقفنا عند حد الاستهلاك أو الفرجة، مما ينذر بخطر يتهدد كياننا كأمة تضرب بجذورها تاريخا هو الأعظم وحضارة هي الأشهر وشعبا هو الأقدر. دور الفكر من هنا نشعر بقيمة الكلمة ودور الفكر وعظمة الابداع، اذ بدون هذه أو ذاك أو تلك، لن تقوم لنا قائمة وسط عالم يلهث وراء مسايرة قرن جديد يحدوه الأمل في تحقيق المزيد من التقدم والازدهار والرقي، والذي لن يتحقق بأي حال دون ارساء قواعد "حرية الرأي والفكر والابداع".. . هذا هو الأساس الذي لايقبل التشكيك أو التأويل في صحته وفق المنطق وطبيعة الناموس البشري، والذي يتطلب لتحقيقه رجالا قادرين علي مواجهة التحديات والصعاب وفرض كلمة سواء ومناصرة رأي وترسيخ مباديء الحق والخير والجمال. الكاتب الكبير "وحيد حامد" لاتحتاج فطنة أي منا دليلا لأقرار حقه في أن نرفع له القبعة علي المستوي الانساني، ونقف له احتراما علي المستوي الابداعي، ونعترف تبجيلا وتعظيما لدوره التنويري الفعال في مجال الفن والأدب.. هو المناضل بالكلمة والمحارب الشريف والانسان الغيور علي وطنه وتاريخه وحضارته، الذي لم ولن تروعه التهديدات أو تخيفه الدعاوي القضائية أو ترهبه تحديات حفنة المرتزقة وضاربي الدفوف وحملة االمباخر في أفراح وليالي ملاح لمن فرضتهم علينا الأيام الخوالي وقفزوا علي كل القمم وطمعوا في كل شيء. الكاتب الكبير "وحيد حامد" واحد من المهمومين بقضايا المجتمع والناس لاجدال ولامبالغة ولاتملق منا، وليس معني حصوله علي أرفع جائزة ثقافية في مصر جائزة النيل في الفنون هو التثمين الحقيقي لوزن هذا الرجل.. . ربما يكون هذا اعتراف رسمي بمجهوداته وعطاءاته علي مر مايقرب من نصف قرن من الزمان، الا أن التتويج الحقيقي الذي يبحث هو عنه يتمثل في وصول رسالته التثقيفية التنويرية الي كل الغيورين علي تراب هذه الأرض المصرية التي حفظت عليها حضارات وشهدت ممالك وامبراطوريات وتعلق في جذورها تاريخا بشريا من نوع خاص وشكل مختلف. مواهب متعددة والمتأمل لانجازات "وحيد حامد" يتعجب من امكانات هذا الرجل وتعدد مواهبه وثقافته الموسوعية العريضة، هذه الامكانات وتلك الموهبة خرجت علينا في شكل أعمال فنية جديرة بالدراسة والاحتفاء والوقوف أمامها طويلا لفهم أبعادها ومابين سطورها، سواء تمثلت في: أفلام سينمائية أو مسلسلات تليفزيونية أو مسرحيات أو مسلسلات اذاعية.. في كل منها يحرص "وحيد حامد" علي توحيد فحوي رسالته والهدف منها، لالمجرد تنويع وسيلة التوصيل بقدر ماهو اثبات مقدرة وتفوق في الألمام بخبايا كل وسيلة علي حدة، وكيفية الاستفادة من امكاناتها الفنية في التوصيل والتفاعل مع الناس، ومن هنا يحاول "وحيد حامد" الوصول لأنسب وسيلة للتوصيل وقد نجح لحد بعيد، فما كتبه للسينما هو مايصل للناس بسلام عن طريق السينما وما كتبه للمسرح من الضروري أن يشخص ويقال علي خشبته وما كتبه للدراما التليفزيونية فقد وجد أن التلفزيون بامكاناته هو وسيلة التوصيل المناسبة لهذه الدراما.. معني الكلام أن "وحيد حامد" يمتلك الخبرة الواسعة بالعناصر الفنية التي تمتلكها السينما أو التليفزيون أو المسرح أو الاذاعة، مما يسهل مهمة باقي طاقم العمل سواء فنيين أو فنانين، وساعده علي تحقيق هذا التميز دراسته لعلم الاجتماع الذي مكنه من رسم شخوص أعماله وأبعادها المتكاملة من دم ولحم مصري وانساني خالص. قدم صاحب جائزة "النيل" للسينما (مؤلفا وكاتبا للسيناريو والحوار) عشرات الأفلام منذ عام 1977، حيث قدم أول أفلامه "طائر الليل الحزين" اخراج "يحيي العلمي" بطولة "عادل أدهم" و"شويكار" حول مراكز القوي في مصر. وكان آخر أفلامه "أحكي ياشهر زاد" اخراج "يسري نصر الله" عام 2009 أي منذ ثلاث سنوات، إلا أن دراما التليفزيون كانت قد أخذته عن السينما منذ هذا التاريخ. وبين هذين التارخين قدم "وحيد حامد" العديد من الأفلام مع أشهر مخرجي السينما المصرية يأتي "سمير سيف" صاحب الرصيد الأكبر حيث قدما معا ثمانية أفلام بدأت بفيلم "غريب في بيتي" عام 1982 بطولة "نور الشريف" و"سعاد حسني" وانتهت بفيلم "ديل السمكة" عام 2003 . ومع المخرج "شريف عرفه" قدم "وحيد حامد" ستة أفلام كان أولها "اللعب مع الكبيار" عام 1991 وآخرها فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" عام 1998 . ومع المخرج "عاطف الطيب" قدم "وحيد حامد" خمسة أفلام أولها "التخشيبة" عام 1984 وأخر فيلم قدماه معا "كشف المستور" عام 1994 . ومع المخرج "أحمد يحيي" قدم "وحيد حامد" أيضا خمسة أفلام كان أولها "من الذي قتل هذا الحب" عام 1980 وآخرها فيلم "سمارة الأمير" عام 1992 وكان للمخرج "حسين كمال" مع "وحيد حامد" ثلاثة أفلام هي: "كل هذا الحب" عام 1988 بطولة "نور الشريف" و"ليلي علوي"، "المساطيل" عام 1991، و فيلم "نور العيون" قصة "نجيب محفوظ" عام 1991. كذلك للمخرج "محمد ياسين" ثلاثة أفلام مع "وحيد حامد" هي: "محامي خلع" عام 2002، "دم الغزال" عام 2005، وفيلم "الوعد" عام 2008. أما المخرج "نادر جلال" فكان له مع "وحيد حامد" فيلمين: "رجل لهذا الزمان" عام 1986، و"ملف سامية شعراوي" عام 1988 الي جانب العديد من مخرجينا الكبار ممن كان لهم حظا من كتابات "وحيد حامد" السينمائية منهم: خيري بشارة في فيلم "رغبة متوحشة" عام 1992، "علي عبد الخالق" في فيلم "بنات إبليس" عام 1984، "سعيد مرزوق" شفاه الله في فيلم "قصاقيص العشاق" عام 2003، "مروان حامد" في أولي تجاربه فيلم "عمارة يعقوبيان" قصة "علاء الأسواني"، وعدد آخر من المخرجين والمخرجات لايتسع المجال لذكرهم. أما مايلفت النظر في هذا الكم المتميز من الأفلام التي قدمها الكاتب الكبير "وحيد حامد" فيتمثل في أن النجم الزعيم "عادل امام" كان له نصيب الأسد من القيام ببطولتها والتي بلغت تسعة أفلام، ظني أنها علي الرغم من طابعها أو قالبها الكوميدي الا أنها تتناول قضايا اجتماعية وسياسية ساخنة تحتاج الانتباه وتتطلب الوقوف عندها، بعد أن رصدت معاناة وآلام المساكين والمهمشين في مصر، وكل فيلم منها يدق ناقوس الخطر الداهم، تنذر وتحذر من وقوع كارثة محدقة وغضب ينتظر لحظة الانفجار. بدأ هذا الثنائي المتميز بين: "حامد" و"الزعيم" بفيلم "انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط" اخراج "محمد عبد العزيز"عام 1981، أما أخر هذه الثنائية فقد كان فيلم "عمارة يعقوبيان" اخراج "مروان حامد" عام 2006. وفي هذا الصدد لابد لنا من الوقوف أمام نماذج من أفلام ثنائية "وحيد و عادل" المتميزة علي المستويين: الجماهيري والنقدي ومنها: "اللعب مع الكبار"، "الأرهاب والكباب"، "طيور الظلام"، "النوم في العسل".. هذه الأفلام التي تناولت قضايا اجتماعية وسياسية شائكة في وقت كانت مصر فيه تحت حكم استبدادي بوليسي ديكتاتوري يسيطر علي البلاد والعباد بقبضة حديدية كان يظن أنه لافكاك منها ولاخلاص. مجالات أخري لم يقف عطاء "وحيد حامد" الكاتب الكبير قامة ومقاما عند السينما، بل تعدي لمجالات ابداع فنية أخري، فقد كانت للدراما التليفزيونية من موهبته بعض من نصيب حيث قدم العديد من المسلسلات التي تشكل إحدي علامات التميز في هذا النوع من الدراما . لعل أبرزها: "أحلام الفتي الطائر" اخراج "محمد فاضل" عام 1978 بطولة الزعيم "عادل امام"، "البشاير" اخراج "سمير سيف" عام 1987، "العائلة" اخراج "اسماعيل عبد الحافظ" عام 1994، "آوان الورد" اخراج "سمير سيف" عام 2000، "الدم والنار" اخراج "سمير سيف" أيضا عام 2004، أما أخر مسلسل قدمه "وحيد حامد" ربما في جزأه الأول فهو"الجماعة" عام 2010 اخراج "محمد ياسين".. هذا المسلسل الذي يتناول السيرة الذاتية لمؤسس جماعة مايسمي الاخوان المسلمين والذي أقام علي مؤلفه الدنيا ولم يقعدها الي الآن من قبل أنصار تلك الجماعة التي تقوم علي غير سند قانوني معترف به كما هو الحال لجميع الحمعيات الأهلية في مصر والتي تخضع لقوانين الدولة في المراقبة المالية والرعاية الرسمية. لم يقف عطاء الكاتب الكبير "وحيد حامد" عند السينما والتليفزيون، بل امتد ليشمل فن المسرح، حيث قدم له بضع مسرحيات، كان أولها "جحا يحكم المدينة" عام 1971 اخراج "شاكر خضير" بطولة "سمير غانم " و"اسعاد يونس"، والمسرحية الاستعراضية "كباريه" عام 1974 اخراج "جلال الشرقاوي" بطولة "نيللي" و"عمر خورشيد". وقد أثبت "وحيد حامد" في كل منهما أنه قادر علي الكتابة للمسرح بتمكن واقتدار ألا أنه للأسف لم يكرر التجربة. وبنفس النهج قدم "وحيد حامد" للاذاعة مسلسلي: "لو كنت منافقا"، و"الدنيا علي جناح يمامة"، وبالمثل لثبت لنا ولنفسه مقدرته علي التعامل مع هذا الوسيط الاعلامي المهم، وللأسف أيضا لم يعاود التجربة وهولاشك قادر. بقي أن نشير الي أن الكاتب الكبير "وحيد حامد" أمام هذا الكم من العطاء الفني المتميز لم ينل مايستحقه من الدولة من التكريم والتقدير، الا أن حصوله علي جائزة "النيل" للفنون هذا العام ربما يثلج جزءا من صدورنا، فهو لاشك يستحق الأكبر والأرقي من الجوائز وشهادات التقدير، ويكفيه أنه استطاع "اللعب مع الكبار" وواجه بشجاعة فكر "الجماعة" فربما في يوم ما يفيق "المساطيل".. هل من أمل؟