جاء اليوم الحزين الذي رحل فيه عن عالمنا المفكر وعالم الاجتماع أنور عبدالملك عن عمر يناهز 88 عامًا ، وكأنه يباغتنا لننتبه إلي ما يحيط بنا من إرهاصات بغربة قادمة لا محالة . فرغم أن مفكرنا كان دائما مشغولا بهموم وطنه لا سيما تلك الهموم السياسية والاجتماعية التي تنوء بحملها الجبال ، ورغم تأكيده علي أهمية الخصوصية والهوية والانتماء لتماسك الأمة العربية والإسلامية جنبا إلي جنب رفضه دعاوي العولمة والانفتاح علي الغرب من أجل التحديث واللحاق بالركب الحضاري، مقابل دعوته إلي الانفتاح علي الشرق (تحديدا الصين واليابان) أقول برغم هذا كله فإن الرجل لم يجد مكاناً يلوذ به في أيامه الأخيرة غير باريس بما يحمله ذلك الملاذ من دلالة ثقافية وحضارية . باريس فما هذه الدلالة؟ هل تراها تشير إلي كون باريس مطلقة شرارة ثورات العالم الحديث ، بدءا من الثورة الفرنسية الكبري 1789 وكونها المدينة التي اندفعت منها أول ثورة اشتراكية - وإن أخفقت - عام 1848 ثم كوميونة باريس 1870 والمدينة التي احتضنت ثورة الطلاب اليساريين في مايو 1968وأخيرا المدينة التي بشرت بعودة الاشتراكيين إلي الحكم في عامنا الحالي؟ منذ أن شرع عبدالملك في عملية الإنتاج الفكري الخاصة به وضح اهتمامه بالفلسفة الماركسية ، فكان أن قاده طموحه الوطني إلي محاولة تمصير الماركسية بما صكه من مصطلح المدرسة المصرية في الماركسية دون إهمال التأثيرات العالمية لهذه المدرسة، باعتبارها سلاحا من أجل التحرر الوطني والاقتصادي لبلدان العالم الثالث ، وكان له في ماو تسي تونج أسوة حسنة، فهل نجح مفكرنا في مسعاه؟ أغلب الظن أنه لم ينجح، ليس لعيب فيه لكن لأسباب موضوعية أهمها غلبة النمط الآسيوي للإنتاج المعوق لتطور المجتمعات والمحجّم للطبقة البورجوازية والطبقة التالية لها: البروليتاريا أن تمارس الفعل الثوري لتغيير الواقع. تغيير العالم من هنا كتب أنور عبدالملك كتابه العمدة " تغيير العالم " (بجانب مؤلفاته الأخري : الفكر العربي في معركة النهضة، ونهضة مصر، ريح الشرق، تغيير العالم، الشارع المصري والفكر، الإبداع والمشروع الحضاري، والمواطنة هي الحل) ففي هذا الكتاب تحديداً جاء الإسهام الفكري الكبير لعبدالملك في سياق علم الاجتماع المعاصر، حيث قام من خلاله بانتقاد المدارس الليبرالية، وكذلك الماركسية الغربية التي تتعلق بمفاهيم الدولة والأمة والقومية وغيرها، وكان إسهامه الفكري في هذا السياق قاصدا تبيان درجات الاختلاف بين الواقع الذي أنتج تلك الرؤي والأفكار وبين والمتغيرات الطارئة التي فرضها نضال شعوب العالم الثالث في مواجهة الغرب الامبريالي. في هذا الكتاب ركز عبدالملك علي التطور الذي جري لمفهوم عالمية العالم ابتداء من القرن التاسع عشر - مع ميلاد العلوم الاجتماعية - حيث ذهب المفكرون الأوروبيون إلي فكرة أن الواقع العالمي متصل منذ الحضارة الإغريقية ، حضارة سقراط وبركليز مروراً بالثقافة المسيحية العالمية الطابع، وحتي بزوغ الإمبراطورية البريطانية .. بما سمح لفكرة "المركزية الأوروبية " أن تبرز وتنتشر.ذلك أن ثقافة أوروبا بدءا من القرن ال 15 قبلت بالتحديث فتخلت عن مفاهيمها الموروثة من عصر الجمود اللاهوتي ، الأمر الذي قادها للانطلاق نحو فضاء الاختراعات والأبحاث العلمية والكشوف الجغرافية ، الفضاء الذي دعاها لفتح مناطق المواد الخام وإخضاع بلدان الشرق ولو بالقوة العسكرية كي تكون لمنتجاتها أسواق مفتوحة . وبذلك توجت أوروبا سيدة للعالم .ومن ثم راحت تصدر للآخرين فكرة " المركزية الأوروبية " بما يعني ألا سبيل لمجتمع يسعي للتقدم سوي بسلوك السبيل الأوروبي ، دون أن تقصد في المسكوت عنه منافستها طبعا، بل القبول بالتبعية لنموذجها لا أكثر، وإلا فعليها أن ترضي بالتخلف. ويا له من خيار شرير . وعليه فلقد قوبلت هذه الفكرة بالنقد الشديد في مرحلة ما بعد الكولينيالية خاصة بأعمال بول كنيدي وفاليري شتاين والمفكر العربي الفلسطيني ادوار سعيد والمفكر المصري سمير أمين وغيرهم . وأما أنور عبدالملك فلقد كان أكثر هؤلاء الناقدين استبصارا ً بخطورة هذه الفكرة الشريرة فراح يصارع مستمسكاً بفكرة الأيديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية لعل وعسي! كتب عبدالملك " تغيير العالم " عام 1985 أي قبل زوال الاتحاد السوفييتي واندياحه وذوبانه في منظومة الرأسمالية العالمية والتي ما لبثت حتي اتخذت لها اسماً حركياً جديداً هو " العولمة ". فما العولمة إلا أن تكون أعلي مراحل الرأسمالية ؟! رأسمالية الشركات عابرة القارات والتي تعمل علي تحجيم دور الدولة القومية (وتحجيم دور الكاتب بالمرة) حتي لا يبقي من وظائفها إلا وظيفة الشرطي حارس النظام العولمي الجديد. خلال تسعينات القرن المنصرم بلغ حجم المتبادلات السلعية 30 ألف مليار دولار سنوياً، في حين بلغ حجم المتدفقات المالية 100 ألف مليار دولار كل عام. ثمة 70 ألف مليار نقداً ، تم تبادلها وهي ليست سلعاً ! فكيف حدث هذا؟! حدث لأن النقود ذاتها، ومنذ بداية العصر الرأسمالي التقليدي - قد أصبحت سلعاً ، وأصبحت تحقق أرباحاً أعظم بما لا يقاس حين يجري تبادلها في البورصات العالمية. وهذا أكبر دليل علي عمق أزمة النظام الرأسمالي من الناحية الاقتصادية البحتة، ناهيك عن أزماته السياسية . ومنذ انتهت الحرب الباردة بين نظام الرأسمالية التقليدية (دول الغرب) وبين نظام رأسمالية الدولة (الاتحاد السوفييتي السابق) بهزيمة الأخير، حتي أصبح العالم بأسره رأسمالياً صريحا ً ذا سوق واحدة. وبدلاً من الحروب بين دوله المتقدمة، راح الرأسماليون الجدد يعيدون توزيع الغنائم (عالم الجنوب التعس) من ناحية بتناسي نصوص معاهدة وستفاليا 1648حول حقوق الدول القومية، ومن أخري باستنساخ الاتفاق الودي بين انجلترا وفرنسا عام1904 لتقسيم المستعمرات ، ومن ثالثة بتوليد البنك الدولي 1945، ثم شقيقه صندوق النقد الدولي عام 1946، ومن رابعة بتبني طفلة شريرة، اسمها الحركي اتفاقيات الجات، حتي إذا بلغت رشدها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، رأينا فيها : هند آكلة الأكباد تتقدم إلينا باسم منظمة التجارة العالمية 1994 . ولوضع صيغة العولمة موضع التنفيذ توالت مؤتمرات الدول الصناعية الكبري لغاية واحدة : تقسيم العالم إلي دول لوردات ودول أقنان- بالمعني الاستعاري - حيث توضع الآن القواعد القانونية المقيدة لهجرة أناس العالم الثالث الي العالم الأول السعيد. وعلي من يرفض الانصياع لهذا النظام الأوحد أن يخرج من تحت سمائه. هل لهذا السؤال صلة بموت أنور عبدالملك بعيداً عن وطنه الذي تتناوشه رؤساء الأقنان الكومبرادوريون من بقايا النظام الساقط وطلائع الباشاوات الجدد وكلاء اللوردات في عالمي النفط العربي وما بعد الصناعة الغربية؟ أم تراه موتا في مكان يعبر عن نجاح - ولو محدود - لغايات البشر في تغيير العالم ؟