مستقبل اليسار ومستقبل أمريكا قبل منتصف القرن 21 يعيش المجتمع الأمريكي في الوقت الحاضر - نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين - حالة ازمة مزدوجة. وعلي الرغم من المحاولة المستميتة لاخفاء وجهي الازمة فإن التوجه الاخير للاعلام الأمريكي، بما في ذلك الاعلام شبه الرسمي (الموازي لما نطلق عليه نحن الصحافة القومية) اصبح اكثر من اي وقت مضي ميالا الي الاعتراف بوجهي الازمة التي يعيشها النظام الرأسمالي الأمريكي. فماذا نعني بهذه الازمة المزدوجة؟ اولا: ازمة الكساد الرأسمالي التي تتمثل في افلاس البنوك والمؤسسات المالية والاقتصادية بأعداد كبيرة، والتي تتمثل ايضا في ارتفاع معدلات البطالة إلي نسب لم تعرف إلا في اوقات الازمات الخانقة. الان هناك عاطل واحد بين كل عشرة أمريكيين حسب الارقام الرسمية. وهناك بعيدا عن الارقام الرسمية ملايين من حالات البطالة المقنعة وملايين اخري من حالات البطالة غير المسجلة. ثانيا: ازمة اتساع الهوة بين طبقة الاثرياء وطبقة الفقراء بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الأمريكي، وبصورة لم يسبق لها مثيل في اوقات الكساد الاقتصادي الكبير. ولعله لابد من الاشارة هنا الي ان الاعلام الأمريكي بكل اطيافه يعترف بهذه الظاهرة ويحذر من اثارها الاقتصادية والاجتماعية، في الوقت الذي يصف فيه ازمة الاقتصاد بأنها الاسوأ منذ ازمة 1929 -1933 . ويصف الكاتب اليساري الأمريكي مايكل ييتس هذا الوجه من الازمة المزدوجة بانه يعني "تفاوت كل فرص الحياة بين الاثرياء والفقراء - خلافا لما يدعيه المحللون الرأسماليون من ان فرص الحياة متقاربة في أمريكا بين الاغنياء والفقراء -فرص الخدمات الصحية والتعليمية والمعلوماتية عل سبيل المثال - تمثل تفاوتا علي مسافة شاسعة بين اولئك وهؤلاء بصورة تهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي في هذا المجتمع ". وبينما يقال الكثير عن الوجه الاول من الازمة الراسمالية فإن الوجه الثاني - علي الرغم من الاعتراف به - لا يحظي بتفسير لحدوثه، اي لاستمرار فجوة اللامساواة في المجتمع الأمريكي. واقصي ما يذهب اليه المفسرون الذين لا يغادرون الخطوط النظرية للنظام الرأسمالي هو ان فجوة اللامساواة انما ترجع الي تأثيرات عصر التغيرات التكنولوجية الواسعة التي تولدت عن ثورة الكمبيوتر. وما لا يقال بعد هذا - براي ييتس (في مقال له علي شبكة الانترنيت في عام 2007) - هو "ان اللامساواة هي سمة ترتبط ارتباطا قويا باقتصاد الراسمالية وان تزايد هذه السمة يرجع الي انها نتيجة طبيعية للرأسمالية حين تكون هناك طبقة عاملة راضخة كما في حالة الولاياتالمتحدة بشكل خاص". العملية الامنتخابية يرتبط بهذا الواقع الاقتصادي ( والاجتماعي ) للرأسمالية الأمريكية واقع سياسي تنفرد به الولاياتالمتحدة بشكل خاص. يتمثل هذا الواقع السياسي في حقيقة ان اليمين الأمريكي يتجه باخلاص وبإلحاح الي صناديق الانتخاب معبرا عن انتمائه وولائه، بينما يتجه اليسار الأمريكي بدلا من ذلك الي الشارع. يشرح المفكران اليساريان جيمس بتراس وهنري فيلتماير هذا الاختلاف في كتاب لهما بعنوان "نظام في ازمة: ديناميات راسمالية السوق الحرة" (2003) موضحين ان اليمين الأمريكي يتمسك بالنظام السياسي الذي يحمي مصالح الراسماليين واهم زوايا هذا النظام السياسي هو العملية الانتخابية. ولهذا يحرص اليمين علي الادلاء بصوته في الانتخابات الأمريكية التي تقطعها النسبة الغالبة من الناخبين الأمريكيين، حيث لا تتجاوز نسبة الأمريكيين الذين يدلون بأصواتهم في الانتخابات - خاصة الرئاسية - 25 بالمائة من الناخبين بينما يقاطعها نحو 75 بالمائة منهم. ويري المؤلفان اليساريان ان اليسار يتوجه الي الشارع ويقوده ويوجهه ويكتب شعاراته ومطالبه ولافتاته في المظاهرات الشعبية والمسيرات والاعتصامات وكل الانشطة الاحتجاجية علي سياسات وقرارات النظام الرأسمالي الحاكم. ويذهب يتراس وفلتماير الي ان اليسار يقود مظاهرات تعد بمئات الملايين في المدن الأمريكية في المناسبات المختلفة اذا جمعت اعداد المتظاهرين. كما يذهبان الي ان اليمين المتطرف يفضل ان يشار اليه بوصف "المحافظين" باعتبار هذا الوصف تعبيرا اهدأ عن حقيقة الانتماء السياسي لليمين الذي يتحكم بنتائج الغالبية العظمي من الانتخابات، فيما يتجه اليسار الي الشارع الي الجماهير مدركا انه لن يغير السياسة كما يغيرها الناخبون والمنتخبون الا انه يراكم تأييدا من الجماهير ويراكم شحنات من الغضب السياسي من شأنها ان تخلق في المستقبل واقعا جديدا. اليسار الأمريكي موجود اذن بكثافة وبفاعلية مستقبلية في الشارع الأمريكي. وهو يدرك مع ذلك ان الادارات المتعاقبة ديمقراطية وجمهورية تدفع الولاياتالمتحدة باتجاه سياسات خارجية ذات طابع امبريالي وتتسم بنزعة عسكرية واضحة لها اثارها السلبية عالميا ولها اثارها السلبية في داخل المجتمع الأمريكي. ومن هنا فان السياسات الأمريكية تقوي اليمين واليمين المتطرف في أمريكا والعالم. ولكن اليسار اصبح يسلم بان طريق الانتخابات لن يفضي الي التغيير الذي يعمل من اجله وهو تغيير النظام الراسمالي. ويؤمن اليسار الأمريكي - في هذا السياق - بان التغيير يحدث في الاتجاه الذي يناضل من اجله وان لم يصبح هذا التغيير مرئيا بعد. وعلي سبيل المثال فان شعارات وسياسات القوي التي كانت تطلق علي نفسها وصف يسار الوسط او يمين الوسط قد اختفت من الساحة الأمريكية ومن الساحة الاوروبية ايضا. وسبب اختفائها هو انها نتاج للعملية الانتخابية التي تلقي اهتمام اليمين واليمين المتطرف. مظاهرات الخوف ويرصد اليسار الأمريكي خلال ذلك من التغيرات ما جري في أمريكا اللاتينية حيث استطاع اليسار ان يصل الي السلطة نتيجة نظام انتخابي مختلف ونتيجة استجابة حتمية لمواقف الشارع في مدن أمريكا اللاتينية. انها تغييرات صنعها الفقراء الذين تظاهروا ضد النظم المحكومة من واشنطن. وقد اثمرت هذه المظاهرات في أمريكا اللاتينية علي الرغم من انها ليست جميعا بقيادة قوي سياسية منظمة، انما بعضها خرج الي الشارع ليفرض إرادته بدون تنظيم او قيادات منظمة. انها مظاهرات فجرها الخوف من انتشار الجريمة ومن الانحدار الاجتماعي والسياسات الليبرالية الجديدة المؤيدة من واشنطن وخوفا من اتساع نطاق البطالة ... وهذه كلها عناصر متوفرة في المجتمع الامريكي والشارع يعلن مواقفه ضدها بصورة تكاد تكون يومية. تضاف الي هذا اسباب المظاهرات في المدن الأمريكية التي تشمل ايضا المظاهرات ضد العولمة والمظالم التي توقعها بالطبقة العاملة الأمريكية والفقراء الأمريكيين فضلا عن الطبقات العاملة في العالم الثالث الفقير. ويضاف اليه ايضا المظاهرات ضد الفساد وضد تراجع حقوق الانسان في ظل النظام الذي يتولد عن انتخابات تقاطعها الغالبية من الجماهير الأمريكية. وفي هذه المظاهرات جميعا يحدث استقطاب طبقي يضم الشباب والعمال والعاطلين والمزارعين والمهنيين والعاملين بأجر الذين يرفضون السياسات الاقتصادية والمالية للطبقة الحاكمة الصناعية. ولا يعتبر الرفض الثوري من جانب اليسار الأمريكي للحروب التي تخوضها الولاياتالمتحدة الان - من العراق الي افغانستان وباكستان مع احتمالات حروب أمريكية محدودة في اليمن والصومال واحتمالات حرب تهدد بالتحول الي السلاح النووي في مواجهة ايران، مجرد موقف نظري يرفض ان تسال دماء الأمريكيين ودماء الشعوب الاخري في حروب غير مجدية. انما هو في اساسه رفض للحروب كوسيلة امبريالية لإصلاح مظاهر التردي في الاقتصاد الراسمالي، قياسا علي ان حروبا سابقة اثبتت فاعليتها في تنشيط الاقتصاد الأمريكي مثل الحربين العالميتين الاولي والثانية والحرب الكورية والي حد ما الحرب علي فيتنام. ان اليسار الأمريكي يدرك ويعلن ما لا يعلنه غيره من القوي السياسية، من ان القصد من هذه الحروب هو تأكيد وتأييد الهيمنة الأمريكية علي بلدان الشرق الاوسط بما فيها بلدان الخليج التي تعد اهم مصادر الطاقة لأمريكا، وترمي هذه الحروب ايضا الي دعم ارتباط بلدان اوروبا بالولاياتالمتحدة استراتيجيا واقتصاديا، ومد نطاق الهيمنة العسكرية الأمريكية في اسيا خاصة بعد صعود قوة ونفوذ الصين وتصاعد احتمالات التنافس علي السيطرة بين أمريكا والصين علي موقع الدولة الاقوي عسكريا واقتصاديا في العالم. ويمثل اليسار الأمريكي في قيادته لحركة السلام العالمية (او حركة مناهضة الحرب) استمرارا لتقاليد اليسار بشكل عام وتقاليد اليسار الأمريكي بشكل خاص، وقد عرضنا في السابق لدور اليسار الشيوعي الأمريكي في مناهضة الحرب الأمريكية علي فيتنام واجبار السلطة الأمريكية علي الانسحاب منها. ولعل اخطر ما تتنبأ به الدراسات اليسارية بشأن نهاية النظام الراسمالي الأمريكي يتضح في وجهتي نظر تقول احداهما ان الولاياتالمتحدة ستسقط كامبريالية كبيرة اما علي طريقة الهبوط الهاديء الذي تهبط به سفينة فضاء سالمة بغير خسائر بشرية او مادية، او بالارتطام الذي يحطم السفينة الفضائية وهي تحاول الهبوط علي الارض ولا يمكن التكهن بحجم الخسائر في هذه الحالة (الفريد ماكوي - في تحليل عن "تدهور وسقوط الامبراطورية الأمريكية" - اسبوعية ذي نيشن /الامة في 11 ديسمبر 2010). ويتوقع ماكوي ان يكون سقوط الامبراطورية الأمريكية ارتطاما غير أمن ويقول ان اكثر التقديرات واقعية داخل أمريكا وعالميا تقترح ان يكون ذلك في عام 2025 اي بعد 15 عاما فقط من الان. ويضيف ان نهاية الامبراطورية الأمريكية يمكن ان تستغرق 22 عاما تحسب من عام 2003 التي دخلت فيها حرب العراق حسب تقديرات المؤرخين المستقبليين، في حين ان سقوط الامبراطورية البرتغالية استغرق عاما واحدا، والسوفياتية عامين، والفرنسية ثمانية اعوام والعثمانية 11 عاما والبريطانية 17 عاما (...) ويضيف المحلل اليساري ماكوي ان المعطيات المتاحة الاقتصادية والتربوية والعسكرية تشير الي ان القوة العالمية للولايات المتحدة ستنحدر بسرعة اعتبارا من عام 2020 وتصل الي التدهور الكامل لها ككتلة في حدود عام 2030. ويجدر بالذكر - حتي لا نظن ان ماكوي يبالغ في تشاؤمه ان المجلس القومي للمخابرات الأمريكية اصدر في عام 2008 تقريرا مستقبليا بعنوان الاتجاهات العالمية في عام 2025 تنبأ فيه بأن "الثروة العالمية والقوة الاقتصادية ستنتقل من الغرب الي الشرق وان ذلك سيكون حدثا لا سابقة له في التاريخ، وانه سيكون عاملا اساسيا في تدني قوة الولاياتالمتحدة النسبية حتي في المجال العسكري". ويجدر بالذكر ايضا ان المؤرخ الأمريكي بول كنيدي تنبأ في كتاب له صدر قبل اكثر من 20 عاما بان الولاياتالمتحدة ستفقد مركزها كدولة عظمي لانها ستفقد سيطرتها علي اقتصادها ولانها ستكون افرطت في انتشار قوتها العسكرية. اهم من دلالات هذه التنبؤات المستقبلية ما ذكره المنتدي الاقتصادي العالمي في مؤتمره عام 2010 من ان الولاياتالمتحدة قد هبطت الي المركز الثاني عشر هذا العام في نسبة الشبان الحائزين علي شهادة جامعية. كما قدر انها هبطت بالفعل الي المركز 52 بين 139 دولة في مستوي تعليم الرياضيات والعلوم. مع ذلك فان اليمين الأمريكي لا يفوت مناسبة الا ويذكر فيها بان المجتمع الأمريكي يكره اليسار وافكاره ومشاريعه. وقد كتبت صحيفة "واشنطن تايمز" الوثيقة الصلة بالمحافظين الجدد (انصار بوش) في الحزب الجمهوري (في 2 نوفمبر 2010 ان التصويت الذي اعطي الاغلبية في الكونجرس الأمريكي قبل ذلك بأيام "كان تصويتا برفض جدول الاعمال اليساري"، وقد اكدت الصحيفة بهذا من حيث لم تدر ان البديل عن اليمين الجمهوري الان في أمريكا هو جدول الاعمال اليساري. اما موقع الاشتراكية العالمية علي شبكة الانترنت فانه دعا الي "بناء الحركة الاشتراكية ضد البطالة الشاملة وضد الحرب" (30/10/2010) وقال ان هذا وحده ما يكفل استعادة العقل السوي الي المجتمع الأمريكي. واضاف انه ليس للنظام الرأسمالي الأمريكي حل لان الازمة كامنة في نظام الربح ولابد من سقوط هذا النظام لقيام نظام بديل. زعامات سياسية وليس هناك من نظام بديل للنظام الراسمالي الا النظام الاشتراكي، وهذا هو النظام الذي يحمل مبادئه وجدول اعماله الاشتراكيون الأمريكيون - اليسار الشيوعي الماركسي اساسا. ولابد عند هذا الحد ان ناخذ في الاعتبار حقيقة ان الماركسية الناتجة عن تجربة نضالية مستمرة منذ اكثر من 140 عاما تأخذ بالتجديد الذي يفرضه الواقع وتطوراته. واذا سمعنا او قرأنا عن الماركسية الجديدة فان المعني بها هو الماركسية الأمريكية التي جددت مضامينها في ضوء التطور التاريخي. ولقد تبين زيف الاعتقاد اليميني بان السقوط السلمي للاتحاد السوفييتي هو نهاية التاريخ ، تاريخ الصراع الطبقي العالمي وتاريخ النضال من اجل العدالة الاجتماعية. وتبين في الوقت نفسه ان هذا السقوط ليس حائلا دون سقوط النظام الراسمالي وليس باي حال دليلا ضد المقولة التي تؤكد ان الاشتراكية هي الحل. ان الكم الهائل من الادبيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الذي انتج في الولاياتالمتحدة منذ بداية ازمة الراسمالية الحالية يشهد بمدي اتساع استعداد أمريكا لتبني قضية الاشتراكية. في الوقت نفسه فان اليسار الأمريكي قد انجب لأمريكا زعامات ذات وزن واهمية فائقة وتملك صفات "الكاريزما" المؤثرة والقادرة علي القيادة. (انظر سمير كرم: "الرأسمالية تقترب من نهايتها "- افاق اشتراكية - العدد9 ربيع 2009 ) عند الحديث عن مستقبل اليسار الأمريكي تبدو الولاياتالمتحدة مرشحة - بالدرجة الاولي واكثر من اي مجتمع اخر - لتبني الاشتراكية مسقبلا لها. وليس ازدهار الفكر الاشتراكي في أمريكا في ربع القرن الاخير سوي شاهد علي ذلك. وربما يعيد هذا أفكار ماركس عن الاشتراكية الي وضعها الصحيح كما تصوره في عصره. فقد امن بان "الثورة (الاشتراكية) لابد ان تكون عمل عدد حاسم من الامم الصناعية التي تسلك معا دفعة واحدة".