لم أكن أعرف، أو أتخيل، عندما كتبت في هذا المكان قبل أسبوعين عن الوجود الصهيوني في دورة هذا العام من مهرجان "كان" السينمائي الدولي، والتي اختتمت أمس الأول الأحد، أن الجزء الأهم من ذلك التواجد تحقق - للأسف - عبر مشاركة الفيلم المصري "بعد الموقعة" في المسابقة الرسمية، في خيبة أمل كبيرة للسينمائيين والمثقفين والشعب المصري كله، الذي انتظر 15 عاما حتي يشهد مشاركة مصرية رسمية في مهرجان "كان"، فإذا بالصهيونية البغيضة تفسد الفرحة وتلوثها! كان المخرج والناقد الصديق أحمد عاطف أول من فجّر القضية، حيث كشف - في رسالته من "كان" بصحيفة "الأهرام" في 23 مايو الحالي- عن أن المنتج الفرنسي المشارك في إنتاج الفيلم هو الصحفي الصهيوني جورج مارك بينامو، وهو ما لم يكن معلنا قبل سفر الفيلم للمشاركة في المهرجان، حيث كان المعروف أن شركة "نيو سنشري" المصرية هي المنتجة، دون الإعلان عن شريك.. والمفترض ألا يكون هناك شريك، لأن الفيلم ميزانيته صغيرة، وقائم - كما أعلن مخرجه يسري نصر الله - علي سيناريو من خمس ورقات فقط تم تطويره واستكماله خلال التصوير. وتكتمل الدهشة إذا عرفنا أن بينامو لم يسبق له إنتاج أي فيلم في حياته، وأن باكورة إنتاجه هو "بعد الموقعة"، الذي يدور حول ثورة 25 يناير المصرية، بالتركيز علي ما عرف إعلاميا ب"موقعة الجمل".. أي أن الصحفي الفرنسي الصهيوني لم يتحمس لتقديم أي فيلم، ولم تظهر "مواهبه" الإنتاجية إلا للقفز علي الثورة المصرية، والتمسح في الربيع العربي الذي يبدو أنه يثير اهتمام وشهية الصهاينة بطريقة لم نكن ندركها أو نتخيلها.. فقد سار بينامو في ذلك الاهتمام علي درب صديقه الصهيوني الآخر الفيلسوف الفرنسي برنار أونري ليفي، الذي فجر مسئولو مهرجان "كان" قنبلة فنية وسياسية عندما أعادوا "فتح" قوائم الاختيارات الرسمية لهذه الدورة بعد نحو ثلاثة أسابيع من إغلاقها، وأضافوا فيلمه الوثائقي عن الحرب الليبية الأخيرة إلي قسم "عروض خاصة" خارج المسابقة. غضب وصدمة وكما ثار وقتها غضب - وكذلك دهشة - المثقفين والسينمائيين العرب، الذين يعتبر كثير منهم ليفي جاسوسا صهيونيا خطيرا يعمل لمصلحة إسرائيل، ويؤمن بعقيدة الوطن الأكبر من النيل إلي الفرات، أصيب السينمائيون والمثقفون المصريون بصدمة عندما تم الكشف عن مشاركة بينامو في إنتاج فيلم نصر الله، وأيقنوا أن مهرجان "كان" قرر - لسبب غير معروف - إقامة احتفال صهيوني بالربيع العربي، في حين أن مسئولي المهرجان أعلنوا أن هدفهم "تمرير شعلة الثورة بين الشعوب التي يجمعها حب الحرية"، في إشارة إلي سوريا. لا أعتمد بالطبع، فيما أكتبه وفي الموقف الذي أتخذه، علي معلومات ذكرها زميل لي، فقد بحثت بدقة في كل مصادر المعلومات المتاحة، وتأكدت من صهيونية الصحفي اليهودي جورج مارك بينامو، الذي وضعته بعض المواقع الإلكترونية الفرنسية علي قائمة أبرز 500 شخصية صهيونية في الميديا الفرنسية، والذي تحول علي أيدي مخرجنا يسري نصر الله إلي منتج سينمائي.. فقد اشتهر بالعمل كهمزة وصل بين الرؤساء الفرنسيين وبين اللوبي الصهيوني بفرنسا، وكان مقربا جدا من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي عينه مستشارا للشئون الثقافية، واشترك في أكثر من مشروع صحفي مع صديقه برنار أونري ليفي، القطب الصهيوني الكبير الذي أثارت زيارته لميدان التحرير - خلال أيام الثورة المصرية - جدلا واسعا. وبعيدا عن نظرية المؤامرة، لا مفر من الربط بين علاقة الصداقة والمواطنة التي تربط بين بينامو وليفي، فضلا عن الفكر الصهيوني الذي يجمعهما، وبين اختيار فيلم ليفي للعرض في أحد أقسام الاختيارات الرسمية لمهرجان تستضيفه بلادهما بعد إغلاق باب الاشتراك، واختيار فيلم بينامو للعرض في المسابقة الرسمية رغم إجماع النقاد الذين شاهدوه علي ضعف مستواه الفني، ورغم أن الأفلام السابقة لمخرجه يسري نصر الله - وكانت أكبر وأهم - لم تكن تعرض في "كان" إلا في الأقسام الموازية.. وأؤكد هنا أنني لم أشاهد الفيلم، إلا أن الآراء السياسية القائمة علي معلومات مؤكدة، ليست لها علاقة بمشاهدة الفيلم، لأن الأمر هنا لا يتعلق برأي فني، بل مبدئي وسياسي، وكوني لم أشاهده لا يغير من حقيقة أن منتجه صهيوني. آراء النقاد وبما أن الفيلم لم يعرض في مصر، من المفيد هنا أن نذكر آراء النقاد العالميين الذين شاهدوه في "كان" وقيموه.. فقد كانت هناك مجلتان تنشران يوميا - خلال المهرجان - جدولا لتقييم أفلام المسابقة الرسمية من خلال آراء مجموعة من النقاد الأجانب بطريقة وضع عدد من النجوم من خمسة، بحيث تعني النجمة الواحدة أن الفيلم ضعيف والخمسة أنه ممتاز، ويتم جمع التقييمات واستخراج متوسطها حتي يصبح الجدول دليلا لضيوف المهرجان عن اتجاه النقاد واتجاه الجوائز لاحقا. المجلة البريطانية "سكرين إنترناشيونال" استعانت بعشرة نقاد أجانب من بريطانيا، أستراليا، ألمانيا، أمريكا والدنمارك. خمسة من هؤلاء النقاد أعطوا الفيلم نجمة واحدة فقط، والخمسة الآخرون أعطوه نجمتين. متوسط التقييم إذن كان نجمة ونصف النجمة، وكان الأقل بين أفلام المسابقة الرسمية.. أما المجلة الفرنسية "لو فيلم فرانسيه"، فكانت تستعين يوميا في جدولها بخمسة عشر ناقدا فرنسيا من الصحف والمجلات الفرنسية الرئيسية. سبعة من هؤلاء النقاد أعطوا "بعد الموقعة" نجمة واحدة، وستة نقاد أعطوه نجمتين، وناقد واحد أعطاه وجها عابسا بما يعني أنه رديء، وآخر امتنع عن التقييم. علي كل حال، التقييم الفني ليس موضوعنا هنا كما قلت، واستعنت به فقط للإشارة إلي أن اختيار الفيلم في المسابقة الرسمية قد تكون له أسباب سياسية.. أما موضوعنا، فهو الموقف السياسي الذي يجب أن يتخذه السينمائيون والمثقفون المصريون فورا - وقبل مشاهدة الفيلم - لإدانة المخرج يسري نصر الله بعد انتهاكه الموقف العام والقرارات الواضحة للنقابات المهنية والمجتمع المدني والشعب المصري كله بعدم التطبيع مع الكيان الصهيوني، والصهاينة بشكل عام، إلا بعد الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة. بيع وشراء ولابد من الإسراع في الإعلان عن هذا الموقف وتلك الإدانة، خاصة أن الفيلم سيعرض في إسرائيل، رغم إصرار مخرجه علي نفي ذلك.. فقد سأله النقاد في المؤتمر الصحفي لفيلمه بمهرجان "كان" عما إذا كان الفيلم سيعرض بإسرائيل، فقال: "لا أريد عرض فيلمي هناك حتي يعامل الإسرائيليون الفلسطينيين في الأرض المحتلة بشكل أفضل". كما كتب علي صفحته بموقع "تويتر": "شركة نيو سنشري المصرية المنتجة لم تبع الفيلم لإسرائيل، هذا من الشروط الأساسية لعقد الإنتاج المشترك، وشرط موافقتي عليه"، كما أكد أن الطرف الفرنسي لا علاقة له علي الإطلاق بتوزيع الفيلم في الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل.. لكن الموزع السينمائي الإسرائيلي عوديد هوروفيتز قال لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية: "أري ذلك غريبا. لا أعرف لماذا يقول نصر الله ذلك.. فقد اشترينا بالفعل من المنتج الفرنسي حق عرض فيلمه في إسرائيل، وسنعرضه". وحتي لو لم يكن الفيلم سيعرض في إسرائيل، فمجرد تعامل نصر الله مع منتج صهيوني كاف جدا لإدانته.. أما ما يردده بعض النقاد من أنه ربما لم يكن يعرف حقيقة جورج مارك بينامو، فعذر أقبح من ذنب، إذ كيف لا يعرف مخرج كبير مثله كل شيء عمن يشاركه إنتاج فيلمه، وكيف لا يلفت نظره أن الرجل ليست له أي خبرة سابقة بالإنتاج السينمائي، وأنه قرر فجأة دخول ذلك المجال وإنفاق الكثير من المال من أجل "عيون" الثورة المصرية؟!