فجر مسئولو مهرجان "كان" السينمائي الدولي، الذي تُفتتح دورته الخامسة والستين غدا الأربعاء وتستمر حتي 27 مايو الحالي، قنبلة فنية وسياسية الأسبوع الماضي، عندما أعادوا "فتح" قوائم الاختيارات الرسمية للمهرجان بعد نحو ثلاثة أسابيع من إغلاقها، وأضافوا فيلما وثائقيا عن الحرب الليبية الأخيرة، للفيلسوف الفرنسي الإسرائيلي برنار هنري ليفي، إلي قسم "عروض خاصة"، وأعلنوا أنه سيعرض ليلة 25 مايو الحالي خارج المسابقة. وثار علي الفور غضب - وكذلك دهشة - المثقفين والسينمائيين العرب، الذين يعتبر كثير منهم ليفي جاسوسا صهيونيا خطيرا يعمل لمصلحة إسرائيل، ويؤمن بعقيدة الوطن الأكبر من النيل إلي الفرات، واندلع جدل عربي - غربي واسع حول الرجل وأعماله.. ففي حين تتخذ معظم الأوساط العربية هذا الموقف منه، وتقول إن مهرجان "كان" قرر إقامة احتفال صهيوني بالربيع العربي، تعتبره الأوساط الغربية رمزا للحرية والإنسانية.. فقد أعرب جيل جاكوب، رئيس "كان"، عن أمله في أن يقوم الفيلم بمهمة "تمرير شعلة الثورة بين الشعوب التي يجمعها حب الحرية"، واكتفي تييري فريمو، المفوض العام للمهرجان، ببيان مقتضب وصف فيه الفيلم بأنه "يبين إلي أي مدي تستطيع القناعات الفكرية تغيير مجري التاريخ، وتحويل مشاريع التدخل الإنساني والسياسي التي كانت تبدو مستحيلة إلي أمر واقع". وكان فريمو أعلن أن سبعة أفلام جديدة ستدخل البرنامج الرسمي، منها الوثائقي "قَسَم طبرق" (100 دقيقة)، الذي يحمل توقيع برنار هنري ليفي، ويستعيد مغامراته في لهيب الثورة الليبية علي مدي ثمانية أشهر. ويروي العمل كيف أدّي الفيلسوف دوراً مركزياً في التخطيط لتدخل حلف الناتو في ليبيا، تحت مسمي "واجب التدخل الإنساني". ويُعد ليفي وصديقه الوزير الفرنسي الشهير برنار كوشنير من أبرز دعاة "واجب التدخّل الإنساني" منذ عقد التسعينيات. رسالة للسوريين أما ليفي، فقال في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية إن عرض الفيلم في "كان" لن يكون تحية لثوار ليبيا فحسب، بل أيضاً رسالة أمل إلي ثوار سوريا. وذكرت تقارير إعلامية أن "رسالة الأمل" تتعلق علي الأرجح بالاجتماع الذي قال ليفي، في كتابه عن الثورة الليبية "الحرب دون أن نحبها"، إنه عقده في بيته في باريس - خلال فترة حملته الليبية - مع عدد من أبرز أقطاب المعارضة السورية. وقد نددّ كل من الكاتب والأكاديمي برهان غليون، والناقد صبحي حديدي، والكاتب فاروق مردم، بالتحرك الذي يقوم به ليفي، لجمع التوقيعات لدعم ثورة الشعب السوري. وقال المثقفون السوريون المعارضون لنظام دمشق في بيان لهم ردا علي مبادرة لليفي نشرت في جريدة "لوموند" الفرنسية باسم "انقذوا سوريا": "نحن نري أن أشخاصاً كبرنار ليفي، معروفون بمعاداتهم للشعب الفلسطيني وقضيته ومساندون للاستيطان في الأراضي المحتلة الفلسطينية وكذلك الجولان السوري، يحاولون الاستيلاء علي حركة الشعب السوري وتطلعه للحرية ومقاومته الشجاعة لآلة القمع والاستبداد الممارسة عليه.. وأي مبادرة تنضوي تحت لواء هذا النداء سنعتبرها محاوله للإساءة للحركة الديمقراطية السورية ومحاولة لجعلها تنحرف عن مسارها" والاتجاه إلي سوريا يتناسب تماما مع النشاط الملحوظ لليفي في المنطقة منذ بدء الربيع العربي، فقد شوهد عدة مرات في ميدان التحرير بالقاهرة وتم التقاط العديد من الصور له مع الثوار خلال أيام ثورة 25 يناير العام الماضي، وإن كان الدور الذي لعبه ما زال غامضا ومجهولا حتي اليوم.. ثم قام بزياراته الشهيرة إلي ليبيا، والتي جمع خلالها مادة فيلمه الوثائقي. هجوم علي الاشتراكية ليفي، الذي يوصف بأنه أحد "الإلكترونات" التي تحركها إسرائيل في أوقات الأزمات، ولد لعائلة يهودية ثرية بالجزائر في 5 نوفمبر 1948 إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، وانتقلت عائلته لباريس بعد أشهر من ميلاده. درس الفلسفة في جامعة فرنسية راقية وعلمها فيما بعد، واشتهر كأحد أهم قادة حركة "الفلسفة الجديدة" سنة 1976، وهي جماعة انتقدت الاشتراكية بلا هوادة واعتبرتها "فاسدة أخلاقياً"، وهو ما عبر عنه في كتابه الذي ترجم لعدة لغات "البربرية بوجه إنساني" عام 1977 . جعله ميلاده في الجزائر يركز تفكيره في كل ما يتعلق بالدول الإسلامية، وفي 1981 زار أفغانستان وسلم المقاومين معدات لإنشاء إذاعة أفغانستان الحرة، وكان من أوائل المفكرين الفرنسيين الذين دعوا إلي التدخل في حرب البوسنة عام 1990 . تبني قضية سلمان رشدي، وفي 2001 أصدر تأملات حول الحرب ضد الشر ونهاية التاريخ، مما دفع الرئيس جاك شيراك لتكليفه بمهمة خاصة في أفغانستان، وفي 2003 شغلته قضية مقتل دانيال بيرل الصحفي الأمريكي الذي تمت تصفيته في باكستان، حيث أصدر كتاب "من قتل دانيال بيرل؟". ويعد ليفي من أكبر الداعمين للجيش الإسرائيلي، حيث زار جبهة حرب يوليو 2006، وجبهة الحرب علي غزة عام 2008، حين دعا ل "تحرير الفلسطينيين من حركة حماس".. وفي نفس العام، نشر كتابه "يسار في أزمنة مظلمة: موقف ضد البربرية الجديدة"، الذي ذكر فيه أن اليسار بعد سقوط الشيوعية فقد قيمه واستبدلها بكراهية مرضية تجاه الولاياتالمتحدة وإسرائيل واليهود، وأن النزعة الإسلامية لم تنتج عن سلوكيات الغرب مع المسلمين، بل عن مشكلة متأصلة، وأن النزعة الإسلامية تهدد الغرب تماماً كما هددتها الفاشية يوماً ما... وأكد أن التدخل في العالم الثالث بدواع إنسانية ليس "مؤامرة إمبريالية" بل أمر مشروع تماماً. الجيش "الديمقراطي" وفيما كان خلال العقد المنصرم كله من أكبر الداعين للتدخل الدولي في دارفور غرب السودان، أقدم - في افتتاح مؤتمر "الديموقراطية وتحدياتها" بتل أبيب في مايو 2010، علي إطراء جيش الدفاع الإسرائيلي بشكل غير مسبوق، معتبراً إياه أكثر جيش ديموقراطي في العالم. وقال: "لم أر في حياتي جيشاً ديموقراطياً كهذا يطرح علي نفسه هذا الكم من الأسئلة الأخلاقية. ثمة شيء حيوي بشكل غير اعتيادي في الديموقراطية الإسرائيلية". وفي كل الأحوال، ليس لليفي علاقة مباشرة بالسينما، إلا أن له تجربة إخراج فيلم روائي وحيد هو "الليل والنهار"، بطولة آلان ديلون (1997)، لكن فشله النقدي والجماهيري جعله يحجم عن تكرار التجربة. أما في مجال السينما الوثائقية، فيعدّ "قسم طبرق" عمله الثاني الذي يعيده إلي مهرجان "كان" بعد 18 عاماً علي عرض فيلمه "البوسنة" (1994)، الذي أثار زوبعة من الجدل هو الآخر، حيث أدان النقاد والصحفيون ظهور "الفيلسوف ذي الياقة البيضاء" وسط ضحايا التطهير العرقي في سراييفو، مستغلاً معاناة البوسنيين لاجتذاب أضواء الشهرة والنجومية والترويج لأفكار "التدخل الإنساني". الفيلم الجديد أخرجه ليفي وكتبه بالاشتراك مع صديقه جيل هرتزوج، وهو يستعرض أحداث الثورة الليبية - خلال ثمانية أشهر انتهت بمقتل العقيد معمر القذافي - من خلال أربعة أشخاص عايشوا أحداث الثورة منذ لحظاتها الأولي. وقد وجهت إدارة المهرجان الدعوة إلي هؤلاء الأشخاص لحضور عرض الفيلم، ووفقا لما ذكره موقع المهرجان، فإن الأربعة يريدون "إهداء ما أنجزوه بنجاح إلي أصدقائهم السوريين". ولا شك أن ملابسات اختيار الفيلم للعرض في "كان" غريبة للغاية، فلم ينته ليفي من تنفيذه إلا في أواخر أبريل الماضي، أي بعد أيام من إعلان قوائم الاختيارات الرسمية للمهرجان في 19 من الشهر نفسه.. وليس من عادة "كان" انتظار فيلم حتي يصبح جاهزا قبل أيام قليلة من الافتتاح، وليس من عادته - ولا عادة غيره من المهرجانات الكبري - تعديل قوائمه الرسمية والإضافة عليها بعد إعلانها بأسابيع، ولا مفر من تفسير ذلك بأن مبرراته أكبر من أن تكون سينمائية، وأغلب الظن أنها سياسية، بغض النظر عن النوايا.