يقترن اسم زكريا الحجاوي في تاريخنا الثقافي منذ أربعينات القرن الماضي ولمدة ثلاثين عاماً، بالفرق الغنائية والاستعراضية التي أنشأها ورعاها بمقالاته وقصصه ودراساته الأدبية للفنون الشعبية، مع هذا فلم يعد أحد يعرف عنه شيئاً من الأجيال الجديدة التي لم تعاصر نشاطه المترامي في العاصمة والأقاليم. ولهذا كانت لفتة جيدة من المركز القومي للمسرح والموسيقي والفنون الشعبية عقد ندوة عن زكريا الحجاوي في المجلس الأعلي للثقافة في ذكري رحيله تحدث فيها المخرج عبدالرحمن الشافعي والأساتذة عبدالحميد حواس ومحمد أمين عبدالصمد وخالد أبوالليل تخللها وتلاها فقرت فنية للمغنيين والمؤدين الشعبيين وعرض فيلم تسجيلي عنوانه «عاشق المداحين» من إخراج عبدالرحمن الشافعي إلي جانب إصدار كتيب تذكاري بعنوان «زكريا الحجاوي فنان الشعب» شارك في تحريره عدد من الكتاب والباحثين كتب بعضها خصيصا للاحتفال أو نقل من الدوريات الصحفية تلقي أضواء علي حياته وأعماله في السياسة والثقافة. ويذكر الذين عرفوا زكريا الحجاوي وتعاملوا معه انه تحت تأثير عشقه لمصر والمصريين لم يكن يتوقف عن كشف المواهب الفنية علي أرضها من كل الأعمار، وأنه كان يملك من الشعبية في الأحياء والمناطق التي عاش أو تجول فيها ما يستحق أن يروي لأنه لم يقيض مثلها لأحد غيره من المثقفين المعاصرين له الذين ارتبطوا بالشعب وفنونه. ولا شك أن تجواله الدائم في أقاليم مصر بحثاً عن هذه المواهب أتاح له أن يتعرف علي المجتمع المصري وأن يضع يده بدقة علي قيمة ومواجهة وغاياته التي صاغها في أغانيه ومواويله وسيره وأمثاله وأن يقف علي ما تنطوي عليه بلاده من مواهب وجماليات ثرية كان له فضل التنقيب عنها وتقديمها في كتاباته وفي فرقه ومسرحياته ومسلسلاته التي كانت تثير شغف كل من قرأها أو استمع إليها أو شاهدها، ولم يكن زكريا الحجاوي يفرق في تقديره بين من يعبر بالصوت أو النغم أو الكلمة أو الحركة. وإذا كان جهد زكريا الحجاوي في الفنون الشعبية يوصف بالتجميع والعرض بغرض الانتقاص منه، فان حرصه علي أن يقدم هذه الفنون بطينها أو بعبلها لا ينفي عنه حق الإبداع والتأصيل والمعرفة التي تنسب إليه لا إلي أصحابها الأصليين، بما بذله فيها من جهد التحصيل والاختيار والصقل. وعن الصراع اللغوي أو القتال بين الفصحي والعامية فان زكريا الحجاوي ككل الأدباء والباحثين في التراث الشعبي مع اللغة العامية لغة الكلام في الكتابة لما تحمله من مقومات وخصائص إقليمية ليست في الفصحي التي يراها بعيدة عن الحياة الواقعية ويعتبرها عائقاً للتحضر والرقي. وزكريا الحجاوي لم يحصل علي شهادات بسبب فصله من مدرسة الصنايع قبل أن يتم تعليمه بها، لتزعمه المظاهرات ضد الاستعمار والرجعية، لكن ثقافته العامة التي حصلها بنفسه ووعيه بحكمة التاريخ وحسه الإنساني بالعدل والرحمة الذي لا يتحقق إلا بالديمقراطية والاشتراكية كان يفوق به علم من يملكون أعلي الشهادات العلمية كما أن قدرته لا تضارع في قراءة المضامين التي يطابق فيها أبطال السير الشعبية بأولياء الله الصالحين وإن نص عليه نعمان عاشور في كتابه «مع الرواد» افتقاره في دراساته للفنون الشعبية للمنهج العلمي المنتظم. غير أنه استطاع بهذه الثقافة الحية التي تفتقد «المنهج العلمي» أن يخوض تجربته في الحياة التي جعلت منه مدرسة مؤثرة في الحركة الثقافية يقتفي أثرها في التعامل مع التراث الشعبي أصحاب المناهج الأكاديمية أنفسهم كما جعلت منه أيضاً مدرسة في الإبداع الأدبي والنقدي الذي تناثر في الجرائد والمجلات مثل: الفجر الجديد، الأديب المصري، الغد، الرسالة الجديدة وغيرها.. وهو إبداع أدبي ونقدي يستحق أن يجمع في كتب تقديراً لاسمه ودوره وتقدم الحقائق التي يستخلصها الحجاوي من الآداب والفنون الشعبية في الريف قبل أن تشوبها الشوائب في المدن - ميزانا صحيحاً يحذر فيه من أمراض الحضارة حين تستغل المدينة فنون الريف الأصيلة الصافية وتتاجر بها. وقد وجد زكريا الحجاوي من كبار المثقفين والمبدعين من يتحمس له ويعضده مثلما وجد من لم يكن قادراً علي مجاراته. وبقدر ما كان زكريا الحجاوي مثقفاً بالتجربة الميدانية والاطلاع الحر، كان يحمل من طيبة القلب والحنان ما يتجاوز كل حدود، وكان الكثير من المقربين منه من صغار السن والبسطاء ينادونه ب «يا أبي». أما من كان يبتعد أو ينصرف عنه من الشباب بعد أن يأخذ منه ما يحتاج إليه من عون فلم يحمل لهم زكريا الحجاوي أي ضغينة أو عتاب علي هذا الجحود الذي ينكر الجميل أو لا يرده وكانت فلسفته في هذا السلوك غض الطرف عن أخطاء هذا الطراز من البشر حتي لو كانوا من تلاميذه الذين تعلموا منه ولم يكن بمقدوره قط مهما كان رد الفعل سيئاً أن يعدل عن مد يد العون لكل من يلتجئ إليه أو يستشف فيه موهبة. وقليلة هي المقالات التي كتبت عن زكريا الحجاوي في حياته وبعد رحيله ولعل أهمها مقالات رجاء النقاش ومحمود السعدني وعبدالقادر حميدة وخيري شلبي لأنهم كانوا علي اتصال لا ينقطع به. وهناك أيضاً كتاب يوسف شريف «زكريا الحجاوي موال الشجن في عشق الوطن» الذي صدر عن دار الشروق في 2006 . في هذا الكتاب يذكر المؤلف الذين اختلطوا بزكريا الحجاوي وعاشوا معاناته الأليمة التي قضت بأن يتغرب في قطر بعيداً عن أصدقائه وكتبه وأوراقه وتراثه وسهراته وألحانه وأحلامه في وطنه لكي يوفر لأسرته حاجاتها الأساسية في المسكن والمأكل. وكل هؤلاء الذين كتبوا عن زكريا الحجاوي يذكرون انه كان متعباً حزيناً يشعر بدنو أجله ويصرح بأنه لن يستطيع أن يستكمل أبحاثه وتدريباته لفرقة الفنون الشعبية القطرية التي شغلته في الفترة الأخيرة من حياته التي بدأت في الرابع من يونية 1914، وانتهت أو انقطعت فجأة بوفاته علي مكتبه في هدوء وصمت في السابع من ديسمبر 1975 . ومادمنا تطرقنا إلي ما كتب عن زكريا الحجاوي فليس من السهل أن أغفل في هذه الأسطر المتبقية ما ذكره محمود السعدني عنه في كتابه الجميل «مسافر علي الرصيف» الذي صدر سنة 1987 في طبعتين عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، وأفرد فيه فصلاً عن زكريا الحجاوي ولو أن اسمه كان يتكرر مع كل شخصية من الشخصيات الخمس عشرة التي تحدث عنها السعدني في كتابه وقال عنهم في مقدمته إن هؤلاء المثقفين الذين تجمعوا في قهوة عبدالله في ميدان الجيزة هم ملح الأرض وزبدتها وقطعة من عقلها وإن شعاع النور الذي خرج من هذه القهوة كان جزءاً من النور الذي شع علي مصر كلها وبين هذه الأسماء التي أوردها السعدني في هذا الصدد اسم زكريا الحجاوي.