بايدن يوجه بتعديل وضع القوات الأمريكية في الشرق الأوسط    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    تعليقًا على هجمات لبنان.. بوريل: لا أحد قادر على إيقاف نتنياهو وأمريكا فشلت    نحو 30 غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت خلال ساعتين    آخر تطورات لبنان.. الاحتلال يشن 21 غارة على بيروت وحزب الله يقصف شمال إسرائيل    «أنا وكيله».. تعليق طريف دونجا على عرض تركي آل الشيخ ل شيكابالا (فيديو)    التحويلات المرورية الجديدة بعد غلق الطريق الدائري من المنيب تجاه وصلة المريوطية    طعنة نافذة تُنهي حياة شاب وإصابة شقيقه بسبب خلافات الجيرة بالغربية    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    اليوم.. جامعة الأزهر تستقبل طلابها بالعام الدراسي الجديد    وزير الخارجية: تهجير الفلسطينيين خط أحمر ولن نسمح بحدوثه    درجات الحرارة في مدن وعواصم العالم اليوم.. والعظمى بالقاهرة 33    بحضور مستشار رئيس الجمهورية.. ختام معسكر عين شمس تبدع باختلاف    «مرفق الكهرباء» ينشر نصائحًا لترشيد استهلاك الثلاجة والمكواة.. تعرف عليها    مع تغيرات الفصول.. إجراءات تجنب الصغار «نزلات البرد»    الحكومة تستثمر في «رأس بناس» وأخواتها.. وطرح 4 ل 5 مناطق بساحل البحر الأحمر    تعرف على آخر موعد للتقديم في وظائف الهيئة العامة للكتاب    إيران تزامنا مع أنباء اغتيال حسن نصر الله: الاغتيالات لن تحل مشكلة إسرائيل    حكايات| «سرج».. قصة حب مروة والخيل    ضياء الدين داوود: لا يوجد مصلحة لأحد بخروج قانون الإجراءات الجنائية منقوص    المتحف المصري الكبير نموذج لترشيد الاستهلاك وتحقيق الاستدامة    حسام موافي: لا يوجد علاج لتنميل القدمين حتى الآن    عاجل - "الصحة" تشدد على مكافحة العدوى في المدارس لضمان بيئة تعليمية آمنة    وزير الخارجية: الاحتلال يستخدم التجويع والحصار كسلاح ضد الفلسطينيين لتدمير غزة وطرد أهلها    جامعة طنطا تواصل انطلاقتها في أنشطة«مبادرة بداية جديدة لبناء الإنسان»    المثلوثي: ركلة الجزاء كانت اللحظة الأصعب.. ونعد جمهور الزمالك بمزيد من الألقاب    صحة الإسكندرية تشارك في ماراثون الاحتفال باليوم العالمي للصم والبكم    حياة كريمة توزع 3 ألاف كرتونة مواد غذائية للأولى بالرعاية بكفر الشيخ    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    ستوري نجوم كرة القدم.. احتفال لاعبي الزمالك بالسوبر.. بيلينجهام وزيدان.. تحية الونش للجماهير    الوراق على صفيح ساخن..ودعوات للتظاهر لفك حصارها الأمني    نائب محافظ قنا يتابع تنفيذ أنشطة مبادرة «بداية جديدة» لبناء الإنسان بقرية بخانس.. صور    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 28 سبتمبر 2024    تجديد حبس عاطل سرق عقارًا تحت الإنشاء ب15 مايو    التصريح بدفن جثمان طفل سقط من أعلى سيارة نقل بحلوان    استعد لتغيير ساعتك.. رسميا موعد تطبيق التوقيت الشتوي 2024 في مصر وانتهاء الصيفي    فلسطين.. إصابات جراء استهداف الاحتلال خيام النازحين في مواصي برفح الفلسطينية    "الصحة اللبنانية": ارتفاع عدد ضحايا الهجوم الإسرائيلي على ضاحية بيروت إلى 6 قتلى و91 مصابا    أحمد العوضي يكشف حقيقة تعرضه لأزمة صحية    برج القوس.. حظك اليوم السبت 28 سبتمبر 2024: لديك استعداد للتخلي عن حبك    «عودة أسياد أفريقيا ولسه».. أشرف زكي يحتفل بفوز الزمالك بالسوبر الإفريقي    وزير الخارجية يتفقد القنصلية المصرية في نيويورك ويلتقي بعض ممثلي الجالية    الوكيل: بدء تركيب وعاء الاحتواء الداخلي للمفاعل الثاني بمحطة الضبعة (صور)    جوميز ثاني مدرب برتغالي يتوج بكأس السوبر الأفريقي عبر التاريخ    جوميز: استحقينا التتويج بكأس السوبر الإفريقي.. وكنا الطرف الأفضل أمام الأهلي    عمر جابر: تفاجأنا باحتساب ركلة الجزاء.. والسوبر شهد تفاصيل صغيرة عديدة    مصراوي يكشف تفاصيل إصابة محمد هاني    "المشاط" تختتم زيارتها لنيويورك بلقاء وزير التنمية الدولية الكندي ورئيس مرفق السيولة والاستدامة    5 نعوش في جنازة واحدة.. تشييع جثامين ضحايا حادث صحراوي سوهاج - فيديو وصور    حبس تشكيل عصابي تخصص في سرقة أعمدة الإنارة بالقطامية    «زى النهارده».. وفاة الزعيم عبدالناصر 28 سبتمبر 1970    حظك اليوم.. توقعات الأبراج الفلكية اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    تحرك جديد.. سعر الدولار الرسمي أمام الجنيه المصري اليوم السبت 28 سبتمبر 2024    الشروع في قتل شاب بمنشأة القناطر    تزامنا مع مباراة الأهلي والزمالك.. «الأزهر للفتوى» يحذر من التعصب الرياضي    كل ما تحتاج معرفته عن حكم الجمع والقصر في الصلاة للمسافر (فيديو)    أذكار الصباح والمساء في يوم الجمعة..دليلك لحماية النفس وتحقيق راحة البال    علي جمعة: من المستحب الدعاء بكثرة للميت يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ليمونة» تغلق المسرح
نشر في القاهرة يوم 14 - 02 - 2012

ربما تسمح لك السلطة بالتلقيح عليها، وربما تتركك تتنطط عليها لفترة ما، غير أنها ستعاقبك بقسوة عندما تكون أحد أعوانها السابقين من القواعد المهمة في الحياة أن الطيور علي أشكالها تقع، وبذلك يكون سعينا في الحياة يهدف في جزء منه للقاء من هم علي شاكلتنا. كان الضيف أحمد رحمه الله علي شاكلتي، كان عاشقا للمسرح.. وكان عمله في مسرحيتي "الراجل اللي ضحك ع الأبالسة "هو وزميله جورج سيدهم شفاه الله.. هو أول مناسبة نلتقي فيها، كانا ومعهما سمير غانم.. يشكلون فريقا يسمي ثلاثي أضواء المسرح تخصص في تقديم الفقرات الفكاهية في النوادي الليلية والأفراح وكل المناسبات السعيدة، غير أن الضيف أحمد كان يري علي حق أن مستقبلهم الحقيقي في المسرح وأن عليهم أن ينشئوا فرقة مسرحية خاصة بهم، لم يكن جورج وسمير متحمسين بما فيه الكفاية.. كانا خائفين من مسئولية إدارة فرقة مسرحية والتعرض لسوء الحظ وهو مكلف للغاية. وكان السؤال من سيكون الممول؟ وهنا ظهرت مهارات جورج، والحق أنه إلي جانب موهبته كممثل كان رجل إدارة من الطراز الأول. كانوا يعملون في ذلك الوقت في أحد المحلات الليلية ويحصلون علي «900 جنيه» في الشهر، فقرر جورج أن يبدءوا بهذه الجنيهات التسعمائة وهو ما حدث بالفعل. في ذلك الوقت البعيد قبل عهود المال السايب في الانتاج الفني، لم يكن من الصعب أن تبدأ في إنتاج عرض مسرحي خصوصا أنك تملك أهم عنصر في العرض وهو الممثلون. هكذا استأجروا مسرح ميامي في شارع طلعت حرب واتفقوا مع الأستاذ "أحمد سعيد" علي تأليف مسرحية لهم. والأستاذ أحمد سعيد هو أهم مذيع في فترة الناصرية، إنه الرجل الذي كان يهز بصوته عروشا في الستينات، وكان أيضا المذيع الذي أوحي إلي المصريين بأننا علي وشك دخول تل أبيب. وحوسب بالطبع بعد النكسة غير أنه أثبت أن كل البيانات التي كان يذيعها كانت تأتيه جاهزة من القيادة السياسية، بل كانت تحدد درجة الحماسة في إلقائها، لذلك اكتفوا بإبعاده عن الإذاعة. كتب الأستاذ أحمد سعيد المسرحية واختار لها اسما كفيلا بإغلاق عشرة مسارح في ذلك الوقت وربما في غيره أيضا.. كان الاسم هو.. "مطلوب ليمونة". اسم المسرحية كان واضح الدلالة علي المعني الذي تهدف المسرحية إلي إشاعته بين الناس عبر مئات الأفيشات والملصقات.. وهو أن البلد قرفانة. الواقع أن الأصل في المثل الشعبي "ليمونة في بلد قرفانة" يقال فقط عندما نشير إلي عنصر الندرة، أو تفسير اشتداد الطلب علي شيء ما. أما عندما يكون عنوان المسرحية هو "مطلوب ليمونة" فالرسالة هنا واضحة وهي أن الشعب المصري قرفان. ربما تسمح لك السلطة بالتلقيح عليها، وربما تتركك تتنطط عليها لفترة ما، غير أنها ستعاقبك بقسوة عندما تكون أحد أعوانها السابقين، كان أحمد سعيد جزءا مهما للغاية من النظام الناصري، لذلك كانت العقوبة قاسية وحاسمة. موافقة الرقابة علي المصنفات الفنية تتم علي مرحلتين، الأولي علي النص، والثانية وهي النهائية والحاسمة بعد مشاهدة البروفة النهائية. حصل الثلاثي علي الموافقة الأولي، وفي ليلة الافتتاح وكان العرض من إخراج المرحوم عبد المنعم مدبولي، جاء الرقباء ليشاهدوا العرض ثم أصدروا حكمهم النهائي: شكرا.. لا نوافق علي هذا العرض. هي كارثة بكل المقاييس، موت وخراب ديار بعد أن فوجئ الثلاثي بأنهم مسئولون عن تسديد ديون تبلغ الآلاف من الجنيهات بالإضافة إلي ألم الشعور بالفشل. قابلت بالصدفة الضيف أحمد بعد الكارثة بأيام، سألته: يا ضيف.. ماذا أستطيع أن أفعل من أجلكم؟ فقال: ولا حاجة.. عندك مسرحية فيها أدوار متساوية لثلاثة أشخاص؟ فأجبته: عندي. الصدفة والمسرح إذا كنت مازلت تواصل قراءة هذه الصفحات فلابد أنك تذكر أنني بدأت عهدي بالكتابة المسرحية بمسرحية عابدين كومبلكس، وأنني دخت بها علي كل المخرجين والفرق المسرحية وأنني أعدت كتابتها أكثر من عشر مرات وفي النهاية نسيت كل شيء عنها ووضعتها بين أوراقي القديمة، وانشغلت بكتابة مسرحيات جديدة. وبعد الكارثة التي أصابت فرقة ثلاثي أضواء المسرح بإلغاء أول عروضها للمسرح، قابلت بالصدفة الضيف أحمد رحمه الله الذي قال لي ان المساعدة الوحيدة التي يمكن تقديمها إليهم، هو أن أكون جاهزا بمسرحية فيها ثلاثة أدوار تصلح لهم. علي الفور تذكرت مسرحية «حدث في عزبة الورد» أحضرتها له في نفس الليلة، لحسن الحظ كان عبد المنعم مدبولي قد قرأ المسرحية عندما كان مديرا لفرقة المسرح الكوميدي ، هكذا بدأت البروفات في اليوم التالي مباشرة في أجواء محبطة للغاية، غير أن مدبولي تمكن بإبداعه وصلابته من دفعهم للعمل. في برنامجه استضاف عمرو الليثي الأستاذ سمير غانم الذي وصف هذه المرحلة قائلا: بعد إلغاء العرض المسرحي الذي كنا علي وشك تقديمه، أنقذنا الأستاذ علي سالم بمسرحية من تأليفه وهي مسرحية "حدث في عزبة الورد. " لم يعلق الأستاذ عمرو الليثي، ربما أصابته صدمة خفيفة عندما فوجئ بأحد الفنانين يقول كلمة طيبة عن "واحد بتاع تطبيع". لا أقول انني أنقذت الثلاثي ومعهم عبد المنعم مدبولي هم الذين أنقذوا المسرحية وأخرجوها من عالم النسيان لتنجح علي المسرح نجاحا لم أكن أتخيله. وبعد تسعة أيام بالضبط من بدء التدريبات تم افتتاح العرض المسرحي. في كل مكان هناك شخص يشع خيرا وإبداعا من كل خلايا جسمه وعقله، هذا الشخص في الفرقة كان عادل نصيف، هو ممثل ومدير خشبة مسرحية وهو قادر علي إيجاد حلول لكل مشكلة تظهر فجأة، استطاع عادل أن يحول ديكورات المسرحية الملغاة إلي ديكور جديد للمسرحية الجديدة، وأهم المشاهد كانت تدور في معمل، لأن بطل المسرحية مخترع له أبحاث معملية، ونجح عادل بالفعل في نقل جو المعمل من أضواء ومؤشرات وأنابيب إلي خشبة المسرح، وهاجر عادل نصيف إلي استراليا وفي الغالب هو في كندا الآن يعمل في صناعة السينما. اقتصاديات العرض المسرحي في ذلك الوقت كانت تحسب علي أساس أن يغطي تكلفته في ثلاثين يوما فقط، إذا استطاع أن يقاوم لمدة شهر كامل فهو عرض ناجح، لم يكن المسرح السياحي قد ظهر بعد، ولذلك كان نجاح عرض الثلاثي مذهلا بعد أن صمد لأربعة شهور كاملة.. ولكن ماذا عن العرض القادم؟ التجربة شجعت جورج وفجرت بداخله كل قدراته الإدارية، تعاقد علي مسرح الهوسابير الذي كانت فرق التليفزيون قد استأجرته ثم أخلته بعد فترة، دفع جورج عربونا مروعا هو ألف جنيه، لذلك كان لابد من تجهيز عرض مسرحي فورا. لم أكن جاهزا بشيء، قال لي الضيف: أنا شفت عند واحد صاحبي مدرس فرنساوي اسمه ريمون كتاب فيه مسرحية يلعبها ثلاثة أشخاص.. المسرحية اتعملت فيلم قبل كده.. وهمفري بوجارت لعب دورًا فيها.. الثلاثة مساجين. - سألته: هل صاحبك ده يجيد الفرنسية؟ - فقال لي: نعم.. هو من أصول فرنسية. طلبت منه أن يستدعيه فجاء بعد دقائق علي فيسبا، سألته: ما أحداث المسرحية؟ فأجابني معتذرا: مش فاكر والله.. أصل أنا قريتها زمان قوي.. عموما هي عن ثلاثة مساجين يقضون ليلة بين أسرة فيحلون لها مشاكلها. لم أكن في حاجة إلي أكثر من ذلك للموافقة علي تمصير المسرحية بعد أن يترجمها ريمون، للأسف هو لا يجيد العربية. مطبخ الملائكة وليس طبيخهم معلوماتي صفر في اللغة الفرنسية وريمون أيضا معلوماته صفر في اللغة العربية، ماذا أفعل بعد أن وعدت جورج بالانتهاء من كتابة المسرحية بعد عشرين يوما فقط، الجملة الوحيدة باللغة العربية التي قالها لي ريمون هي اسم المسرحية وهو" طبيخ الملائكة"، الواقع أنه كان يقصد مطبخا وليس طبيخا، وبذلك يكون اسم المسرحية الذي كان يجب أن تظهر به هو "مطبخ الملائكة ". ووصلت إلي حل ينقذ الوقت وينقذ الفرقة وينقذني، سنجلس معا أنا وريمون في بهو فندق شبرد القديم، وسيقوم بترجمتها جملة جملة إلي اللغة الانجليزية التي كان يجيدها وأقوم أنا بترجمتها وكتابتها فوريا باللغة العربية، كنت في ذلك الوقت أقوم بدراسة الترجمة الفورية في القسم الحر بالجامعة الأمريكية، ووجدت هذه المهمة مفيدة لي للغاية. استغرق كل فصل في الترجمة يوما واحدا، كنت أكتب المسرحية بالعربية وفي الوقت نفسه كنت أكتب في الهوامش الحلول المصرية للمشاهد، لم أكن أترجم فقط، كنت أمارس الكتابة أيضا. بالتأكيد كنت فتوة في ذلك الوقت لأنني انتهيت من تمصير المسرحية في أسبوعين فقط. وبدأت التدريبات عليها من إخراج "حسن عبد السلام" أطال الله عمره وشفاه، لا أستطيع أن أعبر هذه المرحلة بغير أن أتكلم عن الشاعر الغنائي الكبير "حسين السيد"، كان هو بالفعل الأب الروحي للثلاثي، وكتب اسكتشات المسرحية ويخيل إلي أنه كان يعمل من أجلهم مجانا، كان ثريا ليس من الفن فقط بل من التجارة أيضا ، الأمر المؤكد هو أنه كان يحبهم. وقدم لي الضيف شابا جديدا سيلعب دورا في المسرحية، لم يكن ممثلا محترفا، كان زميلا للضيف في فرق الجامعة، واسمه "أسامة عباس" ويعمل رئيسا للتحقيقات في شركة تأمين، لعب أسامة دورا مهما في المسرحية ودورا مهما في حياتي. تاريخ البشر حتي ذلك الوقت كانت قراءاتي منحصرة في كل ما هو فن، روايات، مسرحيات، كتابات نقدية، غير أنني لم أكن مهتما بقراءة التاريخ اللهم إلا الروايات التاريخية، غير أن أسامة كان عاشقا للتاريخ، هكذا بدأ يغريني بقراءة أعمال للمؤرخ الأمريكي الفذ "ول ديورانت" الذي كتب تاريخ البشر بشكل جديد، كان يلتقط صورة لكل عصر بكل ما فيه من نشاط، هو لا يؤرخ للحكام والملوك والممالك، بل يؤرخ للبشر في كل عصر علي حدة، بكل ما أنتجوا وأبدعوا في كل مجالات الحياة، أعارني أسامة الجزء الأول من الكتاب الذي نشر منه في ذلك الوقت حوالي ثلاثين جزءا، أي أن قراءته تتطلب أعواما. هكذا بدأت أستعير جزءا بعد الآخر من مكتبة أسامة، أحببت الرجل لجنونه، يا لها من مهمة جنونية أن يأخذ شخص علي عاتقه هو وزوجته مهمة إعادة كتابة تاريخ البشر، ولقد نجحا في ذلك ومن الغريب أنهما ماتا بعد أن انتهيا من كتابة الكتاب بفترة قليلة وكأن الموت يأبي الاقتراب من أشخاص معينين إلا بعد أن يتموا مهمتهم النبيلة، بالطبع كان يساعده في هذه المهمة عشرات الباحثين لكن لا شك أن الفضل سيعود إليه وحده كقائد للفريق. قرأت له بعد ذلك كتابين وهما "مباهج الفلسفة" والثاني هو "مختصر قصة الفلسفة" كما أحتفظ بنسخة قديمة بالانجليزية للجزء الأول وجدتها في مكتبة تبيع الكتب القديمة في آن آربر بولاية ميتشيجان. أنا أحب المجانين الذين يفكرون في إثراء حياة البشر ويبذلون في ذلك مجهودا أشبه بالمستحيل. لكن هل يبتعد الإنسان عن الفن المسرحي عندما يقرأ التاريخ؟ لا أعتقد ذلك.. التاريخ عرض مسرحي، والبشر جميعا يلعبون أدوارا فيه، نعم الحياة عرض مسرحي لا ينزل عليه الستار. الثلاثي.. وداعًا العمل الفني عن المسرح أتكلم مخلوق حي، وكل مخلوق حي له حظه في الدنيا، وعليه أن يرضي به. نصيب عرض مسرحية «طبيخ الملايكة» من الحظ كان قليلا، والجميل في الأمر أنها تعرض حتي الآن علي شاشة التليفزيون، كان العرض جيدًا غير أن الظروف لم تكن ملائمة فقد بدأت وقتها حرب الاستنزاف وأظلمت القاهرة، أحاطت شكاير الرمل بمداخل المباني لحمايتها من شظايا القنابل المحتملة ودهن الناس نوافذهم باللون الأزرق وكأننا مازلنا نعيش ظروف الحرب العالمية الثانية توقفت حركة الإنتاج الدرامي تماما، ورحل عدد كبير من الممثلين النجوم إلي بيروت وتركيا، حتي أشهر كتاب السيناريو في ذلك الوقت وهو الأستاذ عبدالحي أديب سافر إلي تركيا لفترة قصيرة كتب فيها بعض الأفلام. لم نكن نعيش حربا بل كنا نحيا أجواء الحرب التي تحرم الحياة والبشر من أن يعيشوا حياة طبيعية. غير أن المسرحيين كانوا يقاومون هذه الظروف القاسية بتقديم عروض تزيد من متاعبهم وديونهم. بشكل عام، عندما تطالع صفحات المسرح المصري في القرن العشرين علي الأقل تكتشف بسهولة أن كل من كان يعمل في المسرح هو شخص غاوي فقر، ولكنه العشق.. كيف تقنع عاشقا بأن يكف عن عشقه. عدد قليل جدًا من المسرحيين هو الذي أفلت من الفقر. كانت مسرحية طبيخ الملايكة هي أول عمل أقوم بتمصيره، وأفلح عدد كبير من أصدقائي في إقناعي أنني ارتكبت جريمة كبري.. واحد مؤلف زيك.. يمصّر؟ الواقع أن كل الأعمال الفكاهية التي كان يقدمها المسرح المصري كانت تمصيرًا عن أعمال أجنبية تجاهل المؤلفون ذكر أصولها علي الأفيشات، لذلك كان شرطي مع جورج هو كتابة اسم المؤلف الفرنسي «البير هوسون» علي كل
إعلانات المسرحية، وحذف كلمة تأليف وكتابة كلمة «تمصير» لم يكن ذلك اعترافًا مني بحقوق الملكية الفكرية، بل لتخفيف عبء الإحساس بالذنب علي نفسي، في مشوار حياتك ستقابل كثيرًا من الأصدقاء والأحباء يتحولون في لحظات إلي وكلاء نيابة يوجهون إليك عشرات الاتهامات بدافع من حبهم لك، وستمر سنوات طويلة قبل أن تكتشف أن الحب كان بعيدًا جدًا عن دوافعهم. تحدثت في ذلك مع شيخ المسرحيين وهو توفيق الحكيم رحمه الله فقال لي: ليس مهما أن تنقل عملاً فنيا أجنبيا عن طريق الإعداد أو التمصير.. السؤال هو.. ماذا ستفعل به؟ هل ستقدم من خلاله إبداعًا حقيقىًا أم لا. في ذلك الوقت من نهاية الستينات، تم تعيين الدكتور "يوسف إدريس" مسئولاً عن المسرح في هيئة المسرح، فانتدبني للعمل معه قارئًا للنصوص المسرحية حيث اكتشفت ثلاثة كتاب جددًا، بهيج إسماعيل، مصطفي بهجت مصطفي، وفهيم القاضي الذي رشحته للثلاثي فكتب لهم مسرحية "فندق الأشغال الشاقة" وهي أيضًا عن أصل فرنسي. إذا لم تكن ذاكرتي قد خانتني، تولي إخراجها الضيف أحمد وتوفاه الله أثناء التدريبات فشعرت أن جزءًا من كياني قد انهار، اختفي الضيف غير أن الفرقة المسرحية التي كافح من أجل ظهورها بقيت علي قيد الحياة بل وبدأت تحقق نجاحا مبهرا إلي أن تدخل الحظ السيئ مرة أخري وأقعد جورج عن العمل، فبقي سمير ليعمل في الإطار الشهير الذي يسمي النجم الأوحد. لم تعد مهنة التمثيل ترد علي خياله، بل الإضحاك.. ويالها من مهمة شاقة، كان الله في عونه. أتساءل وأنا أكتب هذه الذكريات، هل أنا أكتب مرثية، أم أعلق علي أحداث مباراة لم أعد لاعبًا فيها. أرفض أن يكون الأمر كذلك، غير أنه الحنين إلي الماضي.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.