حين اختارت قيادة القوات المسلحة ممثلة في المجلس الأعلي أن تتجاوب مع مطالبة الجماهير الشعبية الهادرة بتنحي حسني مبارك، كانت تدرك بحكمة القادة أنه لم يعد بالإمكان الوقوف في وجه ثورة الشباب التي أيدها جموع الشعب من عمال وفلاحين وجنود وطلاب، أي أن حكمة الجنرالات هي التي جنبتهم وجنبتنا هذا المأزق التاريخي الذي كان يمكن أن يعصف بالمؤسسة الوطنية العريقة صاحبة التاريخ الوطني المرتبط بأحلام وتطلعات الشعب المصري العظيم، وقبل ثورة يناير كان بعض المحللين يتحدثون عن تململ قيادات الجيش من مشروع التوريث، وعبر البعض عن اعتقادهم أن القوات المسلحة لن تقف مكتوفة الأيدي وأنها ستتدخل في اللحظة الحاسمة ضد مشروع التوريث، إذ لا مصلحة لها ولا للوطن في اعتلاء نجل الرئيس سُدّة الحكم كونه - علي الأقل- لا ينتمي للمؤسسة العسكرية التي احتكرت الحياة السياسية منذ انقلابها علي الملك سنة 1952، هذا الانقلاب الذي أيده الشعب المصري ليتسمي باسم «الحركة المباركة». ثم يطلق عليه طه حسين اسم "ثورة" ويدفع في اتجاه تحويل الحركة إلي ثورة عبر مقالاته في جريدة الأهرام ثم ما تلي ذلك من اكتشاف مجموعة الضباط بحسهم الوطني أن عليهم أن يغيروا طبيعة النظام الإقطاعي المصري، وعليهم أن يؤسسوا لعلاقات إنتاج جديدة عبر إصدار قانون الإصلاح الزراعي والشروع في بناء السد العالي وحركة التصنيع وتأميم القناة وما ترتب علي تلك الإجراءات الثورية من الدخول في معركة مفتوحة مع الاستعمار، وبدا أن مصر التي يحكمها أبناء الجيش تقود تلك المعركة، وفي كل ذلك كانت القري والنجوع والمدن تؤيد وتبارك الجيش وأبناءه الذين أصبحوا قادة للحياة المدنية، كان ما حدث هو امتداد طبيعي لعلاقة فريدة بين جيش كان دائما في قلب الحركة الوطنية منذ ثورة عرابي وشعب وعي أن طليعته الثورية بدأت منذ أعلن عرابي تمرده علي طريقة معاملة الضباط والجنود المصريين وعلي محاباة الشراكسة والأتراك، ثم إعلانه بعد ذلك المطالبة بالحكم الديمقراطي والحياة النيابية وما حدث من انتصار للحركة ثم انكسارها ونفي الثوار وفي كل هذا كان الشعب المصري حول أبناء جيشه ففي الحالتين السابقتين أيد الشعب حركة الضباط فالتف الفلاحون حول زعيم الثورة ولاسيما حين أحسوا أن الثورة ضد النفوذ الأجنبي داخل الجيش المصري وفي الحالة الثانية سنة 1952 خرجت جموع الشعب لتبارك حركة الضباط ولولا هذا التأييد الشعبي لانتهي الأمر بإعدامهم أو بعودة سيطرة الإقطاع علي مقاليد الأمور. إذن يمكننا القول بأن الشعب المصري كان مسئولا بدرجة كبيرة عن تحويل انقلاب 52 إلي ثورة، حين أيد كل طموحات العسكر ولما انتهي الأمر بهزيمة 1967 وأعلن عبد الناصر عن تنحيه خرجت جماهير 9 و10 يونية لتصرخ "حنحارب..حنحارب"، ثم ما تلي ذلك من اندلاع المظاهرات التي تطالب بالمحاكمة للمتسببين في الهزيمة وحين انتهت إلي أحكام خفيفة كما حدث في سلاح الطيران خرجت المظاهرات مرة أخري لكن تلك المظاهرات لم تطالب بسقوط حكم العسكر ولا بسحب الثقة من عبد الناصر الذي أصبح رغم الهزيمة رمزا لطموحات وأحلام الشعب المصري بل وكل الشعوب العربية. فماذا حدث إذن بعد تنحي الرئيس مبارك، أظن أن الأمر بدا معكوسا فالآن وبعد مضي عام كامل علي تلك الانتفاضة المجيدة نجد أن الأوضاع الاقتصادية للفقراء قد تفاقمت وأن الثوار الذين ساعدوا القوات المسلحة في التخلص من كابوس التوريث يتهمون بالعمالة ويتفاقم الانفلات الأمني بتواطؤ ملحوظ لوزارة الداخلية دون أن نري رادعا من المجلس العسكري للمتآمرين علي أمن وأمان الناس، بل وصل الأمر بالشرطة العسكرية للتعامل مع المتظاهرين بنفس أسلوب شرطة حبيب العادلي مما جعلنا نستمع إلي هتاف مغاير تماما لهتاف " الجيش والشعب إيد واحدة " ليصبح الجيش والشرطة إيد "........" ورغم اعتراضي وحزني لوجود مثل هذا المفهوم في أذهان الثوار المكلومين إلا أنني أجد أن هناك ما يبرر تلك الحدة ولاسيما حين أسترجع الأمر بروية فأجد أن المجلس الأعلي تعامل مع حركة الموجة الثورية كأنه يتعامل مع هجوم كاسح تحمل فيه المجلس الضربة الأولي وحاول استيعابها لكي لا تعصف بكل شيء ولكنه ما لبث أن شن هجوما مضادا عبر اتباع تكتيكات شبه عسكرية ولا سيما عند صياغة التعديلات الدستورية التي سبقت الاستفتاء الذي جعل الثوار ينقسمون إلي إسلاميين وليبراليين وحين علت موجة " نعم" في الاستفتاء ولاحظ المجلس انتشاء الإسلاميين راح يصيغ تعديلات بنفسه دون استفتاء أحد وأطلق إعلانا دستوريا بدا غير منسجم مع نتيجة الاستفتاء. ثم ما حدث من خروج الأحزاب الدينية التي بدأت دعايتها السياسية بتكفير المجتمع رغم النص الواضح بعدم التصريح للأحزاب القائمة علي أساس ديني، فبدا وكأن الحكم يسلط علي الثوار هؤلاء المكفراتية ليعاقبهم علي التمادي في ثورتهم، التي يراد لها أن تبقي في إطار الاكتفاء بالقضاء علي مشروع التوريث، وكان أن خفتت وتيرة محاكمات قتلة الثوار وقوبل المعترضون من الآباء والأمهات المكلومون بالجر من الشعور والسحل في الشوارع، فبدا أن السلطات تعاقبهم علي إنجابهم لهؤلاء الشهداء وعاد الإعلام المصري بقيادة " أسامة هيكل " ليتحدث عن الفوضي وتعطيل الإنتاج ويعيد استضافة بعض سدنة النظام ليمارسوا التحريض علي الثوار، ثم خروج زوجات ضباط الشرطة وفلول الحزب الوطني للعباسية، لكي يصدر الإعلام الموجه رسالة مفادها أن الشعب المصري منقسم علي نفسه!! وأنه أي الجهاز الإعلامي ينقل الصورتين للمشاهد دون انحياز لأي من الجانبين. إنني ككاتب وشاعر مصري لا أريد أن أشعر بالندم علي ما كتبته من مقالات في بداية الثورة تأييدا لموقف المجلس الأعلي من الثورة في بدايتها، ولا أريد أن أبدو كمن يناشد قادة الجيش بسرعة الحسم وبالانحياز مرة أخري لأحلام وطموحات الشعب المصري العظيم، فيبدو الأمر وكأنني أحلّق بأجنحة الخيال فوق واقع يقول إن المجلس الأعلي قد يتفق مع الشعب في القضاء علي مشروع التوريث وربما في محاربة الفساد بداخل مؤسسات محددة ولكنه لم ولن يسعي لهدم النظام القديم لأن ذلك لم يكن مشروعه منذ البداية فالأمر برمته كان مفروضا بقوة الغضب والانفجار التي صاحبت بداية الأحداث وليس أمام الشعب المصري إلا محاولة فرض أحلامه بنفس القوة وهو الأمر الذي يحتاج إلي وحدة قوي وائتلافات ثورة 25 يناير والقوي الثورية التقليدية في المجتمع وهو أمر عسير وشائك ولكنه أرحم كثيرا من الاستسلام الذي يمكن أن يسيطر علينا لمدة لا يعلمها إلا الله، أو كما قال العظيم نجيب محفوظ سألت الشيخ عبد ربه التائه: متي يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها أن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة.