كن يضحكن حول طبق من الكسكسي، ويتبادلن الحكايات ويدفعن بعضهن البعض عبر الغرفة علي الكراسي. ضحا ريحي (20عاما)، طالبة في قسم اللغة الألمانية وتريد الدراسة في برلين. وسناء إبراهيم، (23 عاما)، تسعي للحصول علي درجة الماجستير في علم الميكروبولوجي (الأحياء المجهرية). إنهما لا تبدوان وكأنهما من ذلك النوع من الشابات التي تتوقع أن تجدهن في وسط خلاف أيديولوجي عميق، ولكن هاهما مع زميلاتهن - وعددهن جميعا عشرة - يقمن في الطابق الثاني من مبني إدارة جامعة منوبةالتونسية الواقعة في ضاحية منوبة التي تقع غربي العاصمة التونسية، ويقاتلن من أجل حق ارتداء الحجاب الكامل مع غطاء الوجه أي النقاب داخل الفصول الدراسية وأثناء الامتحانات. ومع مجموعة من الشباب السلفيين من أصحاب اللحي غير المتناسقة، هؤلاء الفتيات يعتصمن في مبني الادارة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة منوبة منذ 28 نوفمبر 2011. وقد أدي اعتصامهن لاستمرار إغلاق أكبر الجامعات في تونس منذ 6 ديسمبر 2011 ومنع ما يقدر ب 13,000 طالب وطالبة من حضور فصولهم الدراسية. هذا «الاعتصام النسائي السلفي» أشعل مناقشة حامية حول حدود تحمل التعبير الديني في المجال العام في تونس، وخاصة في المعاقل التقليدية للعلمانية في الدولة أي الجامعات التونسية. ما بدأ مع مطالب طالبتين: إيمان ملكي (20 عاما)، وفاتن بن محمود (21 عاما) لارتداء النقاب أثناء الامتحانات في أواخر شهر نوفمبر تفاقم إلي ما يبدو أنه مواجهة عنيدة ومستعصية بين مدير الجامعة العلمانية ومجموعة سلفية صغيرة ولكنها ذات عزيمة وتتكون من حوالي 50-60 طالبًا وطالبة في الحرم الجامعي. صلاة ونقاب «في البداية كان لدينا مطلبان»، كما يوضح الطالب محمد صولي (21 عاما) الذي يقوم بدور حارس أمام مبني الإدارة لحماية المعتصمات السلفيات. «لقد طلبنا غرفة للصلاة داخل الجامعة وحق الطالبات في ارتداء النقاب داخل الفصول الدراسية وأثناء الامتحانات، وهذه لا تزال مطالبنا» ولكن مجلس هيئة التدريس في جامعة منوبة رفض بشكل قاطع السماح بالنقاب في الفصول الدراسية أو أثناء الامتحانات، متعللا بمجموعة متنوعة من المخاوف الأمنية والتربوية. وتشمل هذه المخاوف خطر إخفاء أسلحة أو أجهزة للغش تحت النقاب، وصعوبة تدريس الطالبات اللاتي لا تظهر تعبيرات وجوههن. وأشار بعض الأساتذة إلي أن الجو الثوري ألهم موجة من المطالب الصاخبة للطلاب في الجامعات التونسية. وأشارت د. فايزة ديربل من قسم اللغويات: «بعد الثورة، كان هناك الكثير من المطالب الطلابية، فقد أراد بعض الطلاب إعادة تصحيح أبحاثهم، واشتكي بعضهم أن الامتحانات كانت صعبة جدا، وكنت قادرة علي التعامل مع مشاكلهم علي أساس فردي، ولكن الوضع الحالي لا يمكن السيطرة عليه». تجريب في المجتمع وفي أعقاب الثورة، تنفس التونسيون الصعداء. لقد تم استبدال الدولة البوليسية لزين العابدين بن علي بدولة حرة ذات أجواء نابضة بالحياة بشكل مذهل، وقد تم تأسيس مجموعة من المنظمات غير الحكومية الجديدة ووسائل جديدة للإعلام، وصار الناس يشعرون بالراحة وهم «يجربون» طرقا مقموعة سابقا من «التعبير الديني». وفي حين أن وزارة بن علي للشئون الدينية كانت سابقا تكتب نص خطب الجمعة وتوزعها علي المساجد في أنحاء البلاد، فإن المساجد المحلية هي الآن حرة في الدعوة وكل ما يرغبون في عمله و«تجريبه» من الأمور الدينية. التونسيات يمكنهن الآن ارتداء الحجاب، والنقاب، ويمكن للرجال تربية اللحي الطويلة دون خوف من السجن أو الملاحقة من الحكومة . ونظرا لعدم تمكنه من التوصل الي حل وسط مع المحتجات المعتصمات داخل الجامعة، طلب الحبيب الكزدغلي، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية من وزارة التعليم العالي في أوائل ديسمبر حل المشكلة السلفية النسائية. وقدم السيد الكزدغلي ومجلس الكلية للوزارة طلبات لنقل المعتصمات بعيدا عن مبني الادارة وإخلاء أي من المحتجين من غير الطلاب المسجلين في جامعة منوبة. ومن جانبها ترددت وزارة التعليم العالي في إقحام نفسها في الجدل، ومن المحتمل أن ذلك خوفا من أن ارسال الشرطة لإزالة المتظاهرين بالقوة سوف يؤدي إلي تفاقم الوضع المضطرب بالفعل، ليكون بمثابة تذكير غير مرحب به بمعاملة النظام السابق العنيفة للمتظاهرين. وفي بيان بثته الإذاعة التونسية أمس، كرر وزير التعليم العالي الجديد، المنصف بن سالم، بأن الاعتصام هو «شأن داخلي» لجامعة منوبة، وبأن الشرطة لن تدخل الجامعة. مظاهرة مضادة وبعد أن ضاق الطلاب المحرومين من الدراسة ذرعا بالاعتصام الذي استمر حتي الآن أكثر من شهر واحد، قامت مجموعة من المتظاهرين المعارضين للنقاب تتكون من نحو 200 شخص بالتجمع أمام وزارة التعليم العالي. المجموعة، التي تتألف أساسا من أساتذة وطلاب من جامعة منوبة، دعت الحكومة للتدخل الفوري لتفريق المعتصمات السلفيات واستعادة الأمن في الحرم الجامعي بجامعة منوبة. لقد انزعج العديد من الأساتذة في جامعة منوبة من عدم تدخل الوزارة للمشاركة وانضموا بالتالي للمظاهرة المناهضة للنقاب. وقالت الأكاديمية البارزة د. آمال فرامي من قسم الجندر والدراسات الإسلامية: «لقد جئنا لنعتصم أمام الوزارة لنقول: إما هولاء السلفيات المعتصمات أو نحن»! وأفادت السيدة فرامي وعدد من الأستاذات أنهن تعرضن لتحرشات لفظية من الطلاب السلفيين في أوائل ديسمبر، الذين قاموا بدفع العميد السيد كزدغلي جسديا ومنعوه من دخول مكتبه في مبني الادارة يوم 6 ديسمبر. وفي تقرير صدر يوم 9 ديسمبر، طالبت منظمة «هيومان رايتس ووتش» الحكومة التونسية ضمان التدخل السريع لقوات الأمن عند طلب أعضاء هيئة التدريس لمنع جهات خارجية من عرقلة الحياة الأكاديمية. استقطاب واكتسب الخلاف حول النقاب في جامعة منوبة نغمة استقطاب سياسي وأيديولوجي. السيدة فرامي، مثل العديد من الأساتذة في تظاهرة الأمس، تضع الكثير من اللوم لبروز السلفيين علي كاهل حزب النهضة، وهو حزب يمين- وسط إسلامي فاز بأكثرية الأصوات في انتخابات اكتوبر. وقالت السيدة فرامي: «في نهاية المطاف، فإن القرار يعود لراشد الغنوشي، لأن النهضة خلقت بيئة حيث يشعر هؤلاء الناس بالراحة في فرض إرادتهم علينا». وقال سعيد فرجاني، وهو المتحدث الرسمي باسم حزب النهضة: «إن جامعة منوبة يجب أن تجد حلا للنزاع حول النقاب دون المساس بأي شكل من الأشكال عن حق المرأة الأساسي في اختيار ملابسها الخاصة». وعن مفارقة النقاش والجدل حول النقاب من جهة وقبلها حول النساء اللواتي تلبسن البيكيني علي الشواطئ التونسية من جهة أخري، قال السيد فرجاني: «إنهما وجهان لنفس القضية، فنحن نعيش داخل ديناميات الديمقراطية الوليدة، ويجب علينا احترام مبادئ الديمقراطية». وبالنسبة لبعض الطلاب، فإن المواجهة في جامعة منوبة تمثل ما يزيد قليلا علي مباراة «شد الحبل» محبطة علي قضايا لا صلة لها بموضوع «الهوية التونسية». تقول الطالبة المتحجبة هدي (21 عاما) التي تضع غطاء علي شعرها: «الطلاب هم الخاسر الوحيد في هذه اللعبة». هدي قالت هذا أثناء حضورها أمس المظاهرة المناهضة للنقاب من باب الفضول. وأضافت بغضب: «نريد العودة إلي دراستنا دون التفكير في أية أيديولوجية، هؤلاء الفتيات اللاتي ترتدين النقاب هن تونسيات تماما مثل باقي النساء هنا». ولكن كما يبدو فإن مجلس هيئة التدريس في جامعة منوبة ليس من المرجح أن يتراجع. لقد تعاملت الجامعات الأخري في جميع أنحاء البلاد، في صفاقس وسوسة وأريانة، والقيروان، مع حالات مماثلة لفتيات ترتدين النقاب في الصف. وقد حصلت بعض التنازلات والتسويات المبتكرة لإنهاء الازمة. ووفقا لبعض أعضاء مجلس هيئة التدريس في جامعة منوبة، فقد حل عميد «جامعة 9 إبريل» في تونس العاصمة أزمة النقاب في جامعته عبر منح ثلاث فتيات ترتدين النقاب خيار إجراء امتحاناتهم في فصول الطلاب المكفوفين الدراسية أو مع أستاذة أنثي. لقد قبلن العرض، ويبدو أن الأمور تسير الآن بسلاسة. ولكن العديد من الأساتذة في جامعة منوبة يشعرون أن جامعتهم عليها أن تلعب دورا خاصا باعتبارها المعقل الأكاديمي التونسي الرئيسي أو حصن التنوير العلماني إذا جاز التعبير، في أمة تريد أن تتراجع إلي سلفية بائسة علي الطراز السعودي. يقول د. نبيل شرني من قسم اللغة الإنكليزية بجامعة منوبة: «نحن نخجل من ما حدث في «جامعة 9 أبريل» من تنازل، وموقفنا غير قابل للمساومة». وفي الوقت نفسه، نعود إلي مبني الإدارة في جامعة منوبة، حيث توقف الشباب الملتحين عن لعب كرة القدم وطرحوا حصائر كبيرة خضراء لصلاة المغرب. كان باديا عليهم السعادة بأنهم يحمون الطالبات المنقبات في الطابق العلوي، وأخذوا اسمي وعنواني قبل أن يسمحوا أن أصعد لمقابلة السلفيات المعتصمات. سألت الطالب محمد صولي: ماذا ستفعلون إذا جاءت قوات الأمن لفض الاعتصام وإخراج المعتصمات من المبني. أجاب: «سنقاوم ونحاول أن نتصرف بمرونة، ولكن إذا استخدم البوليس العنف، فسوف نرد. الحامي لنا هو الله فقط، ونحن نعمل علي خدمته فقط». وفي وقت لاحق بعد أن دخلت المبني وصعدت إلي الطابق العلوي وقابلت السلفيات المعتصمات، وتبادلت معهن العناوين والمواعيد للقاءات خاصة لاحقة، سألت السيدة ملكي عن حافزها لقضاء 37 يوما في غرفة باردة غير مجهزة للسكن البشري في الطابق العلوي لمبني الإدارة. وأجابت: «يجب أن يكون لكل فتاة الحرية في ارتداء ما شاءت، هذه جامعة ونحن أحرار». ثم وقفت، وأنزلت نقابها قليلا وقامت بحمل طبق من الأكل، ثم سارت نحو الباب لتخرج من المبني وتقدمه كعشاء للشباب الملتحين الذين يحرسون مدخل المبني في الخارج.