عرفت مصر الأحزاب السياسية منذ عام 1907 وشهدت فيضاناً من الأحزاب التي تشعبت اتجاهاتها الأيديولوجية ، ما بين أحزاب يمين ووسط ويسار ، ومن أهمها الحزب الوطني وحزب الأمة (تأسسًا 1907 ) وحزب الوفد ، كإفراز لثورة 1919 ، وحزب الأحرار الدستوريين (1922) وهو امتداد فكري لحزب الأمة. واعتمدت معظم الاحزاب علي شخصيات كارزمية ، ولم تقم علي مبادئ مجردة لغياب الحكم النيابي الصحيح ، كما لم تتورع عن انتهاك الدستور وتشويه الديمقراطية والدخول في صراعات حزبية ، مما جني علي البلاد والحركة الوطنية أخطاراً جمة. وكان التعليم حلبة للتصارع بين الأحزاب والجماعات السياسية ، خاصة مع تنامي حركة الخلافات الحزبية نحو قضايا مصيرية ، وتشعب التيارات السياسية وتشتتها ما بين الأحزاب السياسية والقصر وحركات المد الإسلامي والشيوعي والشوفيني، تأثرا بالتحولات المذهبية الكبري في العالم منذ مطلع القرن العشرين. التعليم والصراع الحزبي ولم يتورع الساسة عن استغلال الطلاب كأداة في الصراع الحزبي القائم ، ما بين القصر والأحرار الدستوريين والوفد والإخوان المسلمين والجماعات الشيوعية وغيرهم ، فكان الطلاب قوة يستعين بها كل طرف لترجيح كفته في مواجهة الطرف الآخر ، وكان لحزب الوفد الأغلبية بين الطلاب مما جعله يستعين بالحركات الطلابية لمواجهة عداء القصر والإنجليز للحزب، والذي كان يحرمه من أن يتم أي فترة حكم يفوز فيها بالانتخابات ، ويعبر أحد أقطاب الوفد المنشقين عن أهمية تجنيد طلاب الجامعة بقوله " نحن الآن في أغسطس ، وفي أكتوبر تفتح الجامعة، فليكن افتتاح الجامعة موقعة فاصلة ، يجب أن نستعد من الآن للمظاهرات ، فإما أن يثوب النحاس إلي رشده، وإما فليذهب إلي الهاوية " فقال "حلمي عزت " استطيع أن أؤكد أن مظاهرات الجامعيين ستتدفق علي بيت النقراشي ". فقال "عبدالرحيم باشا" .. اجتمعوا بأنصارنا من الطلبة وأعدوا العدة "( السكرية). ومعني ذلك أن الأحزاب السياسية استغلت الطلاب في التصارع داخل الأحزاب السياسية ذاتها، نتيجة الانشقاقات الداخلية ، وقد جذب حزب الوفد بدعوته التحررية من الاستعمار وزعامته الكاريزمية المتمثلة في "سعد زغلول" ثم "مصطفي النحاس"، أكبر عدد من الطلاب. فلم يكن الحزب يتمتع بالأغلبية فقط بين صفوف الشعب، بل أيضا الطلاب. فكانت " الأغلبية الساحقة من التلاميذ وفديون ". ونتيجة تغلب المصالح الحزبية والشخصية الضيقة علي الأحزاب السياسية، فقد عملت علي استغلال كل الوسائل للتأثير علي الطلاب وفرض هيمنتها علي الحركة الطلابية وذلك بمنح الموالين المجانية في التعليم، أو بتسهيل النجاح في الامتحانات، أو بمنحهم الوظائف العليا فور تخرجهم مقابل ولائهم الحزبي واستبعاد المعارضين، أو منحهم بعض الامتيازات للمشاركة أو التوقف عن التحريض والإضراب والمظاهرات وتوزيع المنشورات، وكانت حكومة "إسماعيل صدقي" المستبدة (1930-1933) من أبرز الحكومات التي انتهجت هذه السياسة، وكان الطلاب المعارضون أحيانا ما يتعرضون للتنكيل والفصل ، وقد يذهبون ضحية استخدام العنف(القاهرةالجديدة، والمرايا). كما سعت الأحزاب السياسية إلي كسب ولاء أساتذة الجامعة واستبعاد المعارضين، كما حدث في قضية الدكتور طه حسين الذي عارض منح الدكتوراه الفخرية لأربعة من أقطاب السياسة المصرية من كلية الآداب، مما أدي إلي نقله من الجامعة عام 1932 واشتعلت المظاهرات تأكيدا لاستقلال الجامعة في مواجهة السلطة. ولا يعني انتقاد نجيب محفوظ لاستغلال الأحزاب للطلاب والتعليم كأداة لتحقيق مصالحها، أنه كان ضد الحياة الحزبية، فقد أيد في الواقع الأحزاب الجادة ورأي أن الحزب الجيد هو الذي يعمل علي إعادة خلق الشعب في صميم روحه وفكره وسلوكه، بحيث يتحول إلي مدرسة تتربي الأجيال الناشئة علي برامجها الفكرية، وتغرس فيهم حب الولاء والانتماء لوطنهم. وإذا كان الصراع في بداية الحياة الحزبية وحتي نهاية العشرينيات مقتصرا علي الأحزاب التقليدية كالوفد والأحرار الدستوريين، فقد بدأت تظهر أحزاب ذات صفة أيديولوجية وقوي سياسية ذات خلفية اجتماعية متواضعة، مما جعل النظام الملكي والأحزاب التقليدية ينظرون لهذه الأحزاب والقوي الجديدة نظرة استعلائية ، فمنع أعضاؤها من دخول البرلمان ، وعملوا علي جذب واستغلال هذه القوي الجديدة كالإخوان المسلمين والشيوعيين ومصر الفتاة، ومع أن هذه الأحزاب والجماعات العقائدية الوليدة استجابت لتلك المحاولات، إلا أنها مع نموها وشعورها بقوتها بدأت تستقل وتصطدم بالقصر والأحزاب التقليدية. تغلغل الجماعات السياسية في التعليم كانت جماعة الإخوان المسلمين والشيوعيون أبرز القوي السياسية والفكرية التي انعكست في أدب نجيب محفوظ، حيث رصد نشأة هذه القوي منذ بدايتها، متتبعا علاقتها بالقوي السياسية الأخري ومتنبئا بالأوضاع التي ستصطدم بها . وكان إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا 1924 ، وتردي أوضاع العالم الإسلامي وتفككه واحتلاله، وغياب العدل الاجتماعي والتسلط السياسي، دافعاً لظهور حركة الإخوان المسلمين علي يد الشيخ "حسن البنا" عام 1928، وكانت أنشط الجماعات داخل المؤسسات التعليمية، لنشر مبادئها وتجنيد الأتباع والأنصار لتأييد دعوتها، منذ أن تأسست علي يد الشيخ حسن البنا - وهو معلم - عام 1928 بالإسماعيلية وبرهنوا علي قوتهم المؤثرة بعد الحرب العالمية الثانية داخل وخارج الحرم الجامعي في تحد خطير للقيادات ذات الميول العلمانية في الجامعة والأمة. وتزايد نفوذها حتي أصبحت قوة سياسية ضاربة ، ولم تنته باغتيال مؤسسها عام 1949 ، بل تحالفت مع الضباط الأحرار في ثورة 23 يوليو، إلي أن انقلبوا ضدها عام 1954، مما أدي إلي حظرها وتواري نشاطها، وإن كانت قد استعادت نشاطها في السبعينات. وكان من أسباب انتشارها السريع، أهدافها الواسعة لاستقطاب أكبر عدد، فكان الشيخ حسن البنا يعرفها بأنها " دعوة سلفية سنية صوفية سياسية رياضية علمية ثقافية اقتصادية اجتماعية"،وتأييد القصر في عهدي فؤاد وفاروق للجماعة لتأييدها طموحاتهما للخلاقة الإسلامية، وصعوبة اتهام السلطات لأعضائها بالعمالة أو الإلحاد كما وضعوا - بتمسكهم بالدين- خصومهم في مأزق العداء للإسلام مما أكسبها شعبية واسعة، فقد نظم الإخوان مظاهرة كبري عام 1946 وتوجهوا إلي قصر عابدين وتعرضت لهم حكومة "النقراشي" عند كوبري عباس، فأصيب منهم نحو 84 طالبا، ورد الملك فاروق علي ذلك بزيارة الجامعة في اليوم التالي ، وأعيد تنظيم المظاهرة فسقطت حكومة "النقراشي"، وتولي "إسماعيل صدقي" الوزارة، فهادن الإخوان وعين أحدهم وهو "حسن العشماوي" وزيرا للمعارف. وقد تغلغلت الجماعة في الجامعة منذ بدايتها ، ووجد الطلاب في الإخوان زعامة كاريزمية، وتصورا عن الإصلاح والأمل، واتجاهاً ينتمي إليه وأصبح "حسن البنا" والإخوان في الأربعينات منافسا رئيسيا علي السلطة في الحركة السياسية علي الصعيدين الطلابي والقومي معا. ولم يقتصر دور الجماعة علي تجنيد أكبر عدد من الأتباع بين الطلاب، ولم يتوقف دورها عند مجرد التعليم والتهذيب، بل سعت إلي صبغ نظام الحكم بصبغة إسلامية، حيث تتخطي نظرتها للإسلام حدود الدين، ليصبح دينا ودنيا وشريعة ونظام حكم (السكرية). ولا يظهر أتباع الجماعة ولاء للنظام السياسي أو الأحزاب، حيث عبر "حسن البنا" عن رفضهم للحزبية بقوله " لا حزبية في الإسلام "، أو للانتماء الوطني أو حتي القومي، بل يلغي ولاءهم للإسلام والأمة الإسلامية كل هذه الولاءات ، ويرون في العودة إلي المجتمع الإسلامي حلا لكل مشاكل المجتمع. ويرصد نجيب محفوظ تنامي حدة التعصب لدي الجماعة منذ نشأتها، فبينما نجد "مأمون رضوان" في مطلع الثلاثينات يدرس الفلسفة ويتعامل مع زملائه في الدراسة، ومنهم الشيوعي، كما أنه كان متسامحا منفتحا علي الحضارة الحديثة، ويخطط للسفر لأوروبا لاستكمال دراسته . بينما يمثل عبدالمنعم إبراهيم شوكت الفكر اليميني المتطرف ، والمعبر عن تصاعد نفوذ وتعصب الجماعات الإسلامية ، فلا يتردد أن يصف أخيه بأنه زنديق عدو الله. ورغم أن الجماعة كانت تطرح نموذجا اجتماعيا وأخلاقيا بديلا تزعم أنه يستمد جذوره من الإسلام، فنجد "عبدالمنعم" يقبل بعد تخرجه من الجامعة أن يتوسط له "رضوان ياسين" ليعين في إدارة التحقيقات، معبرا عن تقليدية الإخوان وعدم ثوريتهم الجذرية علي الاشكال التقليدية. وحرص أنصار الجماعة علي جذب المعلمين ونظار المدارس ، باعتبارهم فئة تنتشر في كل أنحاء البلاد وقادرة علي صياغة عقول النشء. وقد تبني بعض المعلمين ونظار المدارس آراء الإخوان المسلمين ، وعملوا علي نشرها داخل المدارس وخارجها ، فكان الشيخ "علي المنوفي" - ناظر مدرسة الحسين الأولية يجمع حوله عددا من الأنصار للإخوان و" كثيرا ممن حوله من طلبة الجامعة " ومنهم "عبد المنعم إبراهيم شوكت" نفسه، ولم يكن يتناول القضايا الدينية فقط، بل أيضا ذات البعد السياسي ، فيقدم محاضرات عن الإسلام والسياسة ويري ضرورة " أن يبعث الإسلام من جديد كما بعث أول مرة ... فلنعد إلي القرآن ، هذا هو شعارنا ، العودة إلي القرآن، بذلك نادي المرشد في الإسماعيلية ، ومن ساعتها ودعوته تسري في الأرواح، غازية القري والدساكر حتي تملأ القلوب جميعا " وأن الدين هو العقيدة والشريعة والسياسة، إن الله أرحم من أن يترك أخطر أمور الإنسانية دون تشريع أو توجيه"(السكرية). وهكذا وجدت الجماعة عددا من الأتباع المخلصين لها داخل المؤسسات التعليمية يبثون أفكارها في محيطهم، ورغم أن ثورة 23 يوليو قد ضيقت علي الإخوان المسلمين بعد تحالفها معهم في البداية ، فقد استمرت الجماعة في نشاطها سرا داخل صفوف الطلاب ، مما عرض بعضهم للسجن والتعذيب(الباقي من الزمن ساعة. وأدت نكسة 1967إلي تغذية الشعور الديني، واستعادة الجماعات الدينية لبعض نفوذها، حيث فسر البعض الهزيمة بإهمال الدين(المرايا)، ثم تزايد نشاطها في عهد السادات بدعم من الحكومة. وعلي جانب آخر بدأت الجماعات الشيوعية في الظهور تأثرا بالثورة الشيوعية في روسيا ، ووجود العمال الأجانب في مصر ، وبإرسال البعثات للدراسة في أوربا وبالأوضاع المتردية للبروليتاريا المصرية. ورغم أن الحركة الشيوعية ضعفت في مصر خلال الثلاثينات ، فإنها عاودت نشاطها في الأربعينات مثل الحركة المصرية للتحرر الوطني (حدتو) ، وأسكرا (الشرارة) وغيرهما. وكان سلامة موسي من أنصار هذا التيار ، وقد تتلمذ علي فكره نجيب محفوظ ، وكان نجيب محفوظ يرفض تطرف هذه الجماعات فيما يتعلق بالمِلكية والحريات الفردية، حيث عبر دائما عن تأييده للاشتراكية الديمقراطية التي تحقق العدل، دون أن تكبل البشر. وكان نجيب محفوظ يري أن الصراع في مصر سيكون بين التيار السلفي المحافظ من ناحية ، وبين التيار التغريبي خاصة جناحه الشيوعي العلماني من ناحية أخري، وانعكست رؤيته تلك في أعماله الأدبية، كما في القاهرةالجديدة والثلاثية. فنجد في «القاهرةالجديدة» علي طه وهو طالب بالجامعة يمثل هذا التيار ويدافع عنه، مقابل مأمون رضوان الممثل للاتجاه السلفي ، وتغلغل هذا التيار بين بعض الطلاب مناديا بإحلال العلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة، والاشتراكية بدل المنافسة(القاهرةالجديدة). كما يمثل أحمد عبد المنعم شوكت في «السكرية» التيار الماركسي الذي بدأ يتسلل إلي طلاب الجامعات، ويطرح نفسه كبديل لحل المشاكل الاجتماعية القائمة في مواجهة أخيه السلفي. ورغم تعاطف نجيب محفوظ مع بعض رؤي هذا التيار، فإنه كان يدرك صعوبة انتشاره داخل المجتمع المصري، نظرا لآرائه الاصطدامية مع موروثات المجتمع، لذلك ظل تأثير هذا التيار في التعليم محدودا، وكان موضع محاصرة سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها داخل المؤسسات التعليمية(الكرنك)، ومن ثم كانت المنشورات وسيلته المثلي لنشر دعوته(السكرية)، وهي وسيلة لا تبدو مجدية في مجتمع كان أغلبه من الأميين.