«محمود ياحبيبي أسخن لك السلاطة ياحودة؟»، عبارة كوميدية صنعت خصيصا لترددهاعلي أسماعنا نجمة الكوميديا "خيرية أحمد" في البرنامج الإذاعي الفكاهي الأشهر "ساعة لقلبك" منذ خمسينات القرن الماضي أمام استاذ الكوميديا "فؤاد المهندس" ومعه كوكبة من نجوم الكوميديا الراقية التي نشأ جيلي عليها و عرفناها واستمتعنا بها، فعن طريق هذا البرنامج عرفنا: "عبدالمنعم مدبولي" صاحب مدرسة خاصة يجب أن تدرس لكل من يريد أن يصنع لنفسه تاريخا وقيمة في عالم الكوميديا عندنا. هذه المدرسة التي أطلق عليها "المدبوليزم" نسبة الي هذا العملاق والمسرحي الكبير أداء وإخراجا، عرفنا محمد فرحات عمر أو "الدكتور شديد" وهو موهبة رفيعة المستوي ومثقف لايعرفه أحد والتي خلدته جملته المشهورة "ومالو ياخويا.. يارب ياخويا يارب" أو شخصية "أمشير أفندي" في مسرحية "30 يوم في السجن" لفرقة الريحاني، كذلك من نجوم "ساعة لقلبك" الفنان محمد يوسف أو "المعلم شكل" تلك الشخصية التي لم تتكرر في تاريخ المسرح أو السينما في مصر لخصوصية أدائها أو لملامح مؤديها أو صوته الذي يدل عليها باقتدار، كذلك النجمان المميزان: محمد أحمد المصري "أبو لمعة" و فؤاد راتب أو "الخواجة بيجو" ونوادرهما المفجرة للضحك المحترم والاستمتاع بأداء أخاذ. كوميديا راقية قائمة كبيرة من نجوم كبار شكلوا فيما بينهم مدرسة للكوميديا في مصر يدين كل كومبدياناتنا لقواعدها وأصولها ومناهجها، مع الفارق في تلك الكوميديا المسفة التي دخلت دون استئذان من الأبواب الخلفية كلصوص الليل، ومن منا ينسي نجوم "ساعة لقلبك": "عقيلة راتب"، "محمد عوض"، "أمين الهنيدي"، الرغاية أو خالتي بمبه "ملك الجمل"، وبالطبع القديرة الأشهر "خيرية أحمد" آخر كوميديانات "ساعة لقلبك". وعبارة "محمود ياحبيبي أسخن لك السلاطة ياحودة؟".. تصورت للحظة أن تؤديها أي من ممثلاتنا سواء الراحلات منهن أو الباقيات، كبيرات السن أو الصغيرات، نجمات التراجيديا أو الكوميديانات ... وكانت المفاجأة أنها عبارة لاتستطيع غير "خيرية أحمد" أن تؤديها كما أدتها هي بعفويتها وذكائها الفطري وملامح شخصيتها الغاية في البساطة والتلقائية، ومن منا لا يشعر أنها أمه أو شقيقته أو جارة له في حي شعبي أو بنت بلد بجد، تتحدث بلغتنا وتعبر عن مشاعرنا وتتفاعل مع همومنا ومشاكلنا بلا مبالغة أو تعال علي أدوار الشخصيات الشعبية التي تصادفنا في الحي أو الديرة أو الناحية ... لقد جاءت شخصيتها من حارات مصر ودروبها وشوارعها وعطوفها، وبكل ما تحمل هذه الشخصية من عادات وتقاليد أصيلة ترسخت في الوجدان الشعبي وشكلت معالم الشخصية المصرية، في زمن انقلبت فيه الموازين وضاعت فيه فضيلة الحفاظ علي أخلاقيات الزمن الجميل، وتاهت معالم الطريق لبناء إنسان جديد. عطاء متواصل الفنانة "خيرية أحمد" فاض عطاؤها في ساحة الفن المصري وتنوعت أدوارها، وان كانت في كل منها لم تبتعد عن دور أولاد البلد الطيبين أصحاب الهمة ممن يعتمد عليهم في اسداء الرأي وأخذ المشورة، وممن يعدون مرجعا للحكمة الشعبية وملجأ للرأي السليم. وعلي مدي مايزيد علي نصف القرن من الزمان، وهبت حياتها للفن علي اختلاف وسائله وأدوات تعبيره، وكرست له كل جهدها وأخلصت العطاء دون تحيز أو تفضيل لهذه الوسيلة عن تلك، فقد قدمت للإذاعة والمسرح والسينما والتليفزيون مع كبار المخرجين والمؤلفين، أعمالا تعد من علامات الفن في مصر، علي الرغم من أنها لم تكن البطلة الأولي، وعلي الرغم من أنها لم تحظ بدور بطولة واحد باستثناء دورها في برنامج "ساعة لقلبك" أمام "فؤاد المهندس"، ولم تسع يوما ما لفرض نفسها لتلعب دور البطولة أو تأخذه عنوة كما تفعل بعض ممثلات اليوم المغرورات بجمالهن واللائي يعتمدن أدوار الإثارة والمشاهد الساخنة والعري جوازا للمرور الي عالم الفن، وللأسف يجدن من يروج لهن وينفق الملايين لعمل أفلام تافهة بقدر تفاهتهن في الحياة. الشخصية المصرية وجد المخرجون في الإذاعة والمسرح والسينما والتليفزيون الفنانة الراحلة "خيرية أحمد" الشخصية المصرية الأصيلة التي تضفي علي أعمالهم مصداقية الواقعية الاجتماعية المهمومة بطرح قضايا الناس ومشكلاتهم الحياتية في شكل كوميديا نقدية هادفة راقية المستوي بعيدة عن الابتذال والاستظراف وسوقية الحوار وتفاهة الكلمة. في الإذاعة كانت شهرتها تملأ الأثير من خلال برنامج "ساعة لقلبك" والتي كانت بطلته بلا منازع علي هيئة "دويتو" غاية في الرقة مع العملاق "فؤاد المهندس"، علي الرغم من وجود أسماء كبيرة من فنانات جيلها أمثال: "نبيلة السيد" و "عقيلة راتب" و"ملك الجمل" وغيرهن، الا أنها استحقت أن تنتزع دور البطولة منهن بما حباها الله من خفة ظل وحضور وتلقائية وبساطة في الأداء، وبروح كوميدية تمتع السامعين. ومن فرط نجاح هذا البرنامج الخفيف الذي كانت مدة عرضه لاتزيد علي خمس دقائق والذي احتل مكان الصدارة في الترفيه والترويح عن الناس في خمسينات القرن الماضي، جاءت فرقة "ساعة لقلبك" المسرحية وبنفس أبطال البرنامج الإذاعي لنري علي خشبة المسرح مانسمعه في الإذاعة حتي تصل درجة التفاعل مع المشاهدين لأقصي مداها من خلال العرض الجماهيري الحي. علامات بارزة ولمكانة "خيرية أحمد" وقدرها في عالم الكوميديا، كان مخرجو المسرح لايجدون مفرا من الاستعانة بها في أعمالهم الكوميدية أو مسرحياتهم ذات الصبغة الواقعية لتضفي عليها روح الدعابة والفكاهة الراقية، أمام زملائها فناني "ساعة لقلبك". لقد قدمت العديد من المسرحيات لمؤلفين كبار وكتّاب مسرح من الطراز الأول، منها مسرحيات: "المغماطيس"، "الناس اللي تحت" للكاتب المسرحي الكبير "نعمان عاشور"، "الطرطور"، "مهرجان الحرامية"، "كلام رجالة"، "نمرة 2 يكسب"، "ممنوع الستات".. وغيرها من المسرحيات التي شكلت علامات بارزة في المسرح الكوميدي المصري. كذلك انتبه مخرجو السينما الي هذه الموهبة التي زاعت شهرتها في الإذاعة وعلي خشبة المسرح الكوميدي، فأسندوا اليها العديد من الأدوار السنيدة التي تكون في الغالب المرآة التي تعكس لبطل الفيلم أو بطلته صورته الحقيقية أمام الناس، ولعب دور الناصح أو المستشار أو المرشد الذي يشير الي الطريق الصحيح للبعد عن الانحراف والشطط ... هكذا عرفنا "خيرية أحمد" في مجمل أدوارها السينمائية التي غلفها الطابع الكوميدي، فقدمت للسينما عشرات الأفلام وتعامل معها فطاحل المخرجين في مصر بدءا من العملاق الكبير "يوسف شاهين" في فيلم "ابن النيل"، والرواد: "صلاح أبو سيف" في "الطريق المسدود"، "محمود ذو الفقار" في "الرباط المقدس"، "فطين عبد الوهاب" في "الفانوس السحري"، "حسن الإمام" في "بمبة كشر" و"أميرة حبي أنا"، "هنري بركات" في "أخواته البنات"، "عاطف سالم" في "السيرك". ومن جيل مخرجي الوسط تعاملت مع "علي عبدالخالق" في فيلم "ظاظا"، ومن المخرجين الشباب استعان بها "علي رجب" في فيلم "صايع بحر"، وكان فيلم "علي جنب ياأسطي" إخراج "سعيد حامد" آخر أفلامها. الشاشة الصغيرة وكان للتليفزيون نصيب وافر من عطاء "خيرية أحمد" خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث شكلت الدراما فيه محور نشاطها الفني فقدمت مايزيد علي الخمسة عشر عملا تليفزيونيا تعد من أشهر إنجازاتها والتي قدمها مخرجون ومؤلفون كبار لهم ثقلهم واحترام أعمالهم أمثال: "ابراهيم الشقنقيري" في "ساكن قصادي"، "مجدي أبو عميرة" في "أين قلبي"، "اسماعيل عبد الحافظ" في "عفاريت السيالة" و"حدائق الشيطان".. وغيرها من المسلسلات الزائعة الصيت ومنها: "مشوار أمرأة"، "قلب ميت"، "في أيد أمينة"، "رمانة الميزان"، "ملك روحي"، "الحقيقة والسراب"، "سوق الخضار"، وكان آخر مسلسل "فرح العمدة" الذي لم يعرض بعد، إلي جانب مسلسل "ابن موت" تأليف "مجدي صابر" وإخراج "سمير سيف" المقرر عرضه في رمضان المقبل. هذه هي باختصار مسيرة الفنانة الراحلة "خيرية أحمد" التي لحقت بطابور الراحلين هذا العام 2011 بعد: نادية عزت، كمال الشناوي، حسن الأسمر، هند رستم، طلعت زين، وعمر الحريري.. إنها رحلة عطاء بلا حدود، لم تحظ خلالها بجائزة مهرجان أو شهادة تقدير من الدولة.. رحلت في صمت بعد رحلة كفاح امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمان، وبعد أن تركت ميراثا من الكوميديا تميزت هي به، رحلت ومعها تقدير واحترام الملايين من جمهورها في مصر والعالم العربي، وهذا يكفيها.