وجدتني عن غير قصد أتجول في متحف ناثان دوس.. لا أبالغ.. صدقني هذا المعرض بمركز الجزيرة للفنون هو نواة لمتحف آت في المستقبل القريب. متحف يضم سيرة نحات عاشق للطبيعة بكل صورها.. أعماله تتجلي فيها الكائنات بسلاسة وانسجام، كأنها في أيام جنة عدن قبل السقوط والطرد، قبل أن تدب فيها روح العداء والافتراس واللاسلام. أيضا رأينا النحات يعيد لنا صورة الإنسان مع كل المخلوقات مرة أخري كأنه «نوح» في فلكه في حب وسلام وروعة وتفاهم وانسجام وتواصل ووئام. هو ناثان دوس.. الذي أزعم أني أعرفه عن قرب فهو ابن بار للطبيعة راضع من كل أثدائها تجده يهتم بالقواقع والاصداف.. يلاحق جرادة.. يرقب دبورا.. يمتطي ظهر جاموسة يمسك بعظام قطة.. باحث في الأحجار يفتش في الموسوعات العلمية.. هو ابن الحياة ينتظر بصبر شديد إلي بيضة الطبيعة ويفرح بفقصها.. هكذا يحيا وهكذا ينحت. هناك دافع غريزي بداخل ناثان يدفعه دفعا بماذا ينحت.. يكتشف في الحجر معاني. فصوص الجواهر تلمع في عتمة الأحجار.. يوحنا المعمدان صاحب الصوت الصارخ في برية الظلم.. شخصية تنخس كل ضمير وتوقظ الهمم الخائرة وتبث في دواخلهم روحا جديدة، يوحنا له مع ناثان وقفات ومحطات فنية. يعاوده المعمدان مع كل جديد. رأس الشهيد الصارخ في طبق من جرانيت أسود.. رغم حالة السكون الظاهري إلا أن تموجات شعر هذا الثائر ولحيته تفصح عن احتجاجات وصرخات تفشل كل سيوف هيرودس أن تكبتها. رءوس.. وأرجل لحصان وجمل.. أشياء مفقودة لها دلالات.. غياب الدور.. أو تبدل الأوضاع.. نهاية مرحلة.. سقوط وتغيير المرأة القوية البنيان.. اختيار النحات لنموذج من الشباب والصحة ليحمل رسالة التعبير هو من أدوات ايصال المفهوم، أيضا خامة الحجر لها دلالات مضافة إلي التكوين كأن يفضل النحات الجرانيت لما له من قوة التماسك وصرحية المعني، هناك يتعامل المبدع مع كيان ووجود، أما في حالة الرخام الأبيض فالرسالة تختلف، البللورات دقيقة ونقية والظلال شفافة، أنت أمام تجل من النور الآخاذ الجاذب لمشاعرك، وأعتقد أن هذا النور الرخامي الناصع النقاء سوف يجتذب النحات ناثان لبعض من الوقت، وأعتقد أيضا أن ناثان سوف لا يقاومه، هذا ما سنراه عما قريب! الطفل موسي يرقد بوداعة في صفط من الجرانيت، رؤية فنية وجرأة علي معالجة فكرة الاحتواء، ثمار، بذور، شرانق، قواقع، هي بدايات الحياة، أجنة تتكون في رحم الطبيعة. ملامس الأحجار، بين الصقل والخشونة بين الهدوء والتوتر، بين السلام والثورة. أصوات تستطيع أن تتحقق منها من خلال منحوتات ناثان، إن أنت أصغيت جيدا، لأن ببساطة مكنونات الفنان تنتقل وبصورة غير مباشرة إلي كل ذرات العمل الفني، هذه حقيقة. النحات هو كائن في عمله، غير منفصل عنه، تجده في كل تفصيلة، في كل تعبير، في كل إيماءة، في كل خامة يختارها، الفنان هو العمل، وعمله هو نفسه. خبز.. وثورة هناك ملاحظة جديرة بالرصد في معرض منحوتات ناثان دوس، ألا وهي أرغفة الخبز. تطالعك في مقدمة الأعمال عدة أرغفة خبز من الحجر الكوارتز.. ذات الألوان القمحية المحمرة والتي تحمصت بدرجات أفران جيولوجية عالية الحرارة، فأنضجتها. وقد وفق ناثان فاختارها لموضوعه هذا لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الفنان يبغي أن يحاكي الواقع في منحوتة حجرية؟! إن كان هذا قصده، فهو ربح زهيد. يرضي به مبتدئ في الفن، أما إن كان وراءه مغزي عميق.. فنحن أمام جدلية فلسفية وهو ما يؤكده وجود قطعتين من نفس خامة حجر الكوارتز، إحداهما «المرأة العجين» وهي تمثل امرأة بدينة خارجة من ماجور العجين كعجين مختمر فائض موفور، والقطعة الأخري «رجل الخبز» تعبر عن رأس رجل قد توحدت ملامحه مع الرغيف. إذا القضية تطرح نفسها وبشدة: فلماذا الخبز الآن؟ وما مدلوله؟ وكيف يري المشاهد الخبز؟ وموقف الخبز من الحياة؟ أسئلة كثيرة قد تتبادر إلي الذهن يثيرها الخبز. فالخبز، جعل ليسند قلب الإنسان، ويشترك فيه كل أفراد الأسرة البشرية، ويحمل معني السلام والمشاركة والإخوة والمحبة الأخوية والبركة والعهد الجديد. هذا بالإضافة إلي أنه أحد أهم معارك الحياة اليومية، كيفية الحصول عليه؟؟ ربما يقول قائل: الحرية أهم من الخبز!، معك حق: الحرية مهمة جدا، بل هي قيمة الحياة ذاتها. لكن الخبز هو الدرجة الأولي في سلم الكرامة.. ولا حرية بلا كرامة.. وقمة السلم هو المجد. لكن البداية خبز.. وعندما يهدد الخبز يثور الشعب.. فتري المطحون المتناثر والمبعثر في كل أكناف الأرض من جراء رياحات كثيرة ذات أطماع، تدب فيه الحياة بفعل خميرة الإرادة الدفينة والرغبة في التغيير. فيتجمع.. ويلتئم.. ويلتحم.. ويعجن من جديد في كتلة من الجرانيت الوردي في قلب الدائرة وليرجع مرة أخري إلي خبز طازج ليوم جديد.