حين عزمت أن أكتب عن هذه الشخصية المتعددة الأبعاد وجدت الحيرة تتملكني لفترة طويلة. هل أكتب عن المناضل أم السياسي أم الكاتب والمؤرخ أم الرجل والإنسان؟! المهم أن الرجل حين يتم في الثلاثين من سبتمبر الجاري عامه الرابع والسبعين - أطال الله عمره- وجدت من الضروري أن نحتفي به في جريدة «القاهرة» لاسيما وأنه يدافع عن قضية وطنه فلسطين، وقضايا أمته العربية عبر كتبه العديدة- 25 كتابا- ألفها منفردا- و30 كتابا مع آخرين، أي أن مجموع ما قدمه 55 كتابا. تربط كاتب هذه السطور صلة فكرية حميمة بالمؤرخ المناضل الأستاذ عبدالقادر ياسين الذي حكي لي أنه جاء من يافا إلي مصر عام 1948، كان عمره حينذاك 11 عاما وأقام مع أسرته في بورسعيد لأن أخوال والده كانوا يقيمون هناك. في السنوات التالية ظل يتنقل مع أسرته بين مصر وغزة.. لأن يافا الفلسطينية كانت قد سقطت فريسة للاحتلال الصهيوني مثلما سقطت أغلب مدن وقري فلسطين. مثل كل الفلسطينيين- الذين يتميزون بدرجة عالية من الذكاء- ظل عبدالقادر ياسين يدرس ويتعلم بمصر- تحديدا بمدرسة العريش الثانوية- حتي انهي تلك المرحلة في مدرسة فلسطين الثانوية بعد أن تلقي تعليميه في المرحلة الابتدائية والإعدادية بمدرستي الإمام الشافعي للاجئين ومدرسة الزيتون - كلاهما في غزة في سنوات عمره الأولي. مسيرة حياة المتتبع لحياة عبدالقادر ياسين- كمناضل سياسي يجد أنه التحق في بداياته بحركة الإخوان المسلمين.. لكن سرعان ما غادرها سنة 1953 منضما إلي الحزب الشيوعي الفلسطيني، ظل عضوا قياديا بهذا الحزب مما أدي إلي اعتقاله في مصر إبان أزمة مارس 1954 وأثناء انتفاضة غزة سنة 1955 وأثناء الاحتلال الإسرائيلي عام 1956، وفي عام 1959 بسجن المحاريق بالواحات - لمدة عامين. 37 يوما في معتقل عتليت إبان حرب 1967 وقع عبدالقادر ياسين في أسر جيش الاحتلال الإسرائيلي- حيث كان يعمل حينذاك بمستشفي الشفاء بمدينة غزة. ويروي الأديب فؤاد حجازي في كتابه «أنهم يقتلون الأسري» - الذي يعد وثيقة مهمة عن معاناة المصريين في سجون الاحتلال الصهيوني- قصة أسره هو حيث كان مجندا بالجيش المصري- كما يروي قصة وقوع عبدالقادر ياسين- وآخرين- في الأسر.. يقول عبدالقادر ياسين في شهادته: حين اندلعت الحرب رابطت في مستشفي الشفاء بغزة حتي أغطي النقص في رجال الإسعاف رغم أن وظيفتي إدارية وفعلا اشتركت في نقل جرحي من منازلهم تحت القصف الإسرائيلي الكثيف إلي المستشفي.وبعد مداهمة قوة جيش الاحتلال الإسرائيلي للمستشفي يذكر انه تم جمع الأسري من العسكريين والمدنيين - من العاملين والموظفين وتم جمعهم في حافلة «حوالي 300 أسير سارت بهم إلي معتقل عتليت الإسرائيلي- في قلب الصحراء- الذي كان تابعا لجيش الانتداب البريطاني». تم حشرهم في عنابر ضيقة بعد رحلة طويلة شاقة- بلا طعام ولا ماء- حتي أوشك البعض منهم علي الموت. يقول عبدالقادر ياسين: وصلنا إلي المعسكر وتنفسنا الصعداء حين وزعونا علي «براكسات» كبيرة وما أن وصلت إلي ركن البراكس «العنبر» حتي وضعت حذائي تحت رأسي لكن زملائي منعوني من النوم مؤكدين أنهم سيفرجون عنا فورا لأننا مدنيون فأفلت منهم وعدت للنوم وقلت لهم: إذا نادوا عليكم فأرجوكم ألا توقظوني، بالمناسبة أنهم يحتاجون إلي ثلاثة أشهر حتي يفرغوا لنا. فقالوا في نفس واحد: فال الله ولا فالك. إلا زميلي حسن الشريف الذي قال لهم: عبدالقادر له خبرة بالسجون. في الصباح قال لهم عبدالقادر: في السجن عليك ان تغير أصدقاءك لأن توترك سيفضي إلي خسرانهم، كما ان عليك ان توطن نفسك علي مدة طويلة وإذا جاء الفرج قبلها غمرتك السعادة أما إذا أخذت تنتظر الإفراج كل صباح فستدمر سريعا. بعد 37 يوما من الأسر تم الإفراج ويذكر في شهادته: في الأسر عانينا من غياب الفراش ومن تدني مستوي الأكل ومن صلف الحراس الذين قتلوا منا عدة أشخاص من أبراج الحراسة علي سبيل التسلية!! ورشة التحرير والعودة يزداد المناضل صلابة- كلما واجهته الصعاب- وكلما تعرض للمحن. هكذا معدن الرجال الحقيقيين، ومن خلال صلتي المستمرة بعبدالقادر ياسين الذي كنت أقرأ كتابا في مجلة الطليعة المصرية والكاتب وروزااليوسف والأسبوع- كما في عدة صحف أخري عربية- كما أطالع كتبه التي ألفها من خلال ثقافته الواسعة قبل كتابه المهم «من تحت الصفر إلي الثورة» وكذا كتابه «الصحافة سيف ودرع» الذي جرت له مناقشة علمية أدارها الكاتب الصديق الأستاذ عبدالعال الباقوري والدكتورة عواطف عبدالرحمن أستاذة الصحافة بإعلام القاهرة في ورشة التحرير والعودة التي ينظمها عبدالقادر ياسين لعدد من الشباب تتراوح أعمارهم بين العشرين وحتي الأربعين أو الخامسة والأربعين يوم الأربعاء من كل أسبوع البعض يعدون رسائل الماجستير والدكتوراه، وبعضهم يعملون في وسائل الإعلام وباحثون جادون. مرت عشرون عاما علي ورشة التحرير والعودة عشرة منها في سوريا وعشرة في مصر، شهدت الاحتفالية التي أقيمت بهذه المناسبة قبل بضعة شهور ومن خلالها - أقصد من خلال ورشة التحرير والعودة تابعت حوارات مهمة حول قضايانا الوطنية أدار بعض هذه الحوارات أستاذنا الدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ بجامعة حلوان. لعل ذلك لأن عبدالقادر ياسين- كمفكر تقدمي قومي يؤمن بأن التغيير يبدأ في عقل الإنسان! إن مجموع الكتب التي قدمها الكاتب الكبير وهي شديدة التنوع: بعضها في الشأن الفلسطيني.. والبعض يتناول قضايا أمتنا: حزب شيوعي ظهره إلي الحائط - كفاح الشعب الفلسطيني قبل عام 1948- فكر اليسار المصري والقضية الفلسطينية- تاريخ الطبقة العاملة الفلسطنية.. هذه الكتب وغيرها.. باقات ورد قدمها المناضل والكاتب والمؤرخ عبدالقادر ياسين للفكر والعمل الوطني والقومي. لعل هذه الكلمات من خلال جريدة «القاهرة» الغراء.. في عيد ميلاده الرابع والسبعين تكون اعترافا منا بفضله.. وتكون أيضا زهرة نقدمها له متمنيين له طول العمر.. والعافية واستمرار العطاء.