يوسف محمد سيدة فنان كبير.. ومفكر وباحث.. محاضر وصاحب رسالة علمية وإبداعية وإنسانية ذات قيمة كبيرة.. حفر عميقا في نهر الإبداع المصري ووصل الاصيل بالمعاصر. تمتد اعماله بطول رحلته الفنية التي اقتربت من الخمسين عاما.. بمراحل ثلاث مابين التعبيرية الشعبية - والتي تلتقي مع سحر الايقاع الشرقي لماتيس وطزاجة الالوان عند راؤول دوفي" 1877- 1953 " كما تذكرنا خشونة سطوحه الارابيسكية خاصة في أعماله الأولي بجورج رووه "1871-1957" - والحروفية العربية او التشكيلية الحروفية التي حقق من خلالها نسقا فريدا خاصا يرتبط بمعني الهوية والحداثة .. هذا مع مرحلته الرقمية التي استشرف فيها المستقبل وعكس من خلال سطوحه التصويرية لما يحدث الآن من طغيان العصر الرقمي ومانشهده حاليا من انظمة الديجيتال وقد جعل للرقم كيانا جديدا في حواره مع كائناته وعناصره. كل هذا وقد نسيناه.. ربما عمدا وربما سهوا . في أكتوبر العظيم.. نرد له جزءا من قيمته الفنية ونضيء علي بعض فنه الغزير.. وقد ترك ثروة ابداعية تجاوزت 2000 عمل في التصوير والنحت والخزف.. خاصة وله لوحة من أجمل لوحاته حول نصر السادس من اكتوبر تهتف فيها الحروف والكلمات مع ابطال مصر من جنودنا البواسل . ابن دمياط في مدينة دمياط ولد يوسف سيدة في 19 -7 من عام 1922 ونشأ وتربي علي فرع النيل الذي حملت المدينة اسمه .. ومثل كل الاطفال كان يرسم ويشكل بالطين دنيا من الأشكال والمجسمات.. وعندما ظهر نبوغه وتفوقه بشهادة اساتذة التربية الفنية.. جاء الي القاهرة وآلتحق بالفنون التطبيقية وبعد تخرجه عام 1942 حصل علي دبلوم المعهد العالي للتربية الفنية عام 1945 . العجيب والمدهش ان سيدة كانت قد اكتملت ادواته الفنية وكان يمارس التصوير بقوة واقتدار وهو طالب بالفنون التطبيقية.. كما قدم اعماله التعبيرية الشهيرة والتي تشبه المطرزات وتنتمي للسحر الشعبي بعد منتصف الاربعينات. لقد انضم سيده الي جماعة " الفن المصري الحديث " التي اقامت اول معارضها عام 1946 وواصلت نشاطها حتي عام 1955 وكان من ابرز اعضائها معه : حامد عويس وعز الدين حمودة وجمال السجيني ونبيه عثمان وجاذبية سري وصلاح يسري وزينب عبد الحميد . حملت تلك الجماعة تبني وسائل التعبير الغربية كما يقول ايميه ازار واستخدامها في تبيان رسالة مصرية او تعبير مصري وقد نجحت في هذا بامتياز علي حد تعبيره . ربما كانت لوحة يوسف " ماكينة الخياطة - 1948 " والتي تعد واحدة من اعماله الشهيرة تأكيدا علي ثراء ابداعه المبكر وهي لوحة اشبه بسجادة شرقية او كليم شعبي.. جاءت بمنظور عين الطائر.. تطل في مقدمتها ماكينة الخياطة علي بساط سحري مسكون بالنقوش وفي خلفية اللوحة تجلس الخياطة في اقصي اليسار ويبدو الفرق واضحاً بين ضخامة الماكينة وبين ضآلة المرأة وفي هذا تأكيد علي دور الألة وقدرتها كأداة للتشهيل والتسهيل خاصة وقد احتفي بها من خلال تلك الارضية من النقوش والالوان الصداحة المشرقة من الاحمر الناري والاخضر الداكن والأصفر الأوكر . بنفس المنطق التشكيلي من المنظور الفوقي نطل علي لوحة " فلايك النيل -1949".. تمتزج فيها النقوش بالبشر وحركة الشاطيء بالروح الشعبية في جسارة و خشونة وتحديدات سوداء تتميز مع شرقيتها بطزاجة فطرية . مع فلايك النيل رسم يوسف مشاهد من دمياط والسنبلاوين ومناظر مأخوذة من سطوح البيوت بخطوط هندسية.. تميزت بتجريدية الالوان مع الخطوط التشخيصية . من بين أعمال يوسف سيدة في فن البورتريه..والذي يفرض نفسه ويقع في مقدمة أعماله " بورتريه امراة يابانية " لفتاة الجيشا بالمروحة والذي يتعانق فيه الشرق القريب والبعيد بدنيا الارابيسك والروح اليابانية ذات المسحة الحزينة المتأملة رغم الشفاة الحمراء . . هذا مع لوحات " عروسة المولد " و" بائع الكنافة " و" مراكب نوح " والقلة " . رغم سفر الفنان إلي امريكا عام 1950-1951 في منحة الفولبرايت الا انه عاد اكثر انتماء للبيئة المصرية مع عصرية اللمسة التي توهجت باللون والتلخيص والتسطيح خاصة تلك الاعمال التي عرضت ببينالي الاسكندرية في دورته الثالثة 1959 والرابعة 1961 . أم سيد من بين تلك الأعمال لوحة " أم سيد الغسالة " والتي تجسد سحر البيئة وطرافة العناصر و تفاصيل الحياة اليومية.. كما نري عند أم سيد التي تجلس بظهرها أمام الغسيل وخرطوم المياه يمتد بشكل عرضي بين الصنبور و" الدلو " مع فرشاة التنظيف و"القبقاب "بينما ينام سيد حبيب امه في سلام .. هادئا في مقدمة اللوحة في جلباب مخطط بالاحمر والاصفر الاوكر ملفوفا في ملاءتها . في لوحة " الطلاق " يتناول يوسف سيدة موضوعا يمثل صرخة اجتماعية بنفس اللغة التعبيرية : امراة تحمل ورقة الطلاق واخري تمسك طفليها بيديها.. طفلة حزينة بينما اخوها يعلن صرخة الانفصال وفي الخلفية نطل علي كل أدوات الشروع في الطلاق من مبني المحكمة والشرطي والكاتب والقاضي الشرعي.. واللوحة تتردد فيها المسطحات السوداء التي تجسد الملاءات اللف والتي تكبح بشكل طبيعي جماح الألوان تمشيا مع الموقف . أمريكا والحرف العربي يسافر سيدة الي أمريكا عام 1961 للاعداد لرسالة الدكتوراه بجامعة اوهايو وتكون المفاجاة عام 1965 حين يقدمها بعنوان " الخط العربي في التصوير الجداري المعاصر وعلاقته بالتراث والفن العربي". وقد اثبت ان الكلمة المكتوبة بما لها من قدسية منذ الاف السنين في التراث المصري ومنذ اكتشاف اللغة الهيروغليفية تستطيع ان تقوم بدور مهم في خلق اشكال فنية جديدة تعبر عن ثقافتنا.. كما حاول ان يعطي لعمله الفني قيمة عالمية بتناوله لموضوعات محلية وبكلمات عربية وذلك من خلال الربط بين الحرف العربي ومتذوق الفن التشكيلي في العالم . لقد جاءت أعماله من خلال المزج بين الحروف والكلمات وبين اطياف وعناصر تشخيصية.. بلغة تشكيلية قائمة علي الروح التلقائية التي يسمو فيها الحرف ويبتهل ويقف وينثني معانقا الرموز والشخوص.. بالاضافة الي هذا المزج الرمزي لعناصر من المصري القديم وفي هذا تأكيد علي تواصل الحضارة المصرية واتصال الثوابت والأصول باللحظة التي نعيشها وروح العصر . لاشك أن هذا يمثل اتجاها في الحروفية العربية يحتفي بالحرف العربي كقيمة ومعني ولغة بصرية وينتقل به من حالة تعبيرية الي أخري مع هذا المزيج التشخيصي . هو وأكتوبر العظيم اذا كان انتصار اكتوبر العظيم والذي يعد من ايام مصر التاريخية قد ألهم العديد من فنانينا فقدموا ملاحم تشكيلية.. فقد قدم يوسف سيدة لوحة تعد واحدة من اجمل اعماله.. جعلها اغنية لروحه الوطنية واشتياقه للنصر.. فذابت الحروف والكلمات مع الجنود والطيور التي تعد رموزا للغة المصري القديم وكأنها تجدد سيرة الانتصارات المصرية من اول التاريخ . قد جاءت في الوان صداحة جهيرة اشبه بدقات طبول النصر . . واذا تأملنا الكتابات نطالع تلك المعاني التي توحي بقوة العزيمة والنصر وتوحي بالبسالة المصرية وبطولة جنود مصر.. وتتألق الخطوط علي المسطح التصويري ممتزجة مع الجنود في بؤرة اللوحة كما تمتد علي الحواف اشبه باطار يزين الانتصار . ولقد تحولت الحروف والكلمات في أعمال سيدة الي ايقاع ارابيسكي تتداخل فيه الحروف والكلمات مع عناصر ورموز وقد تصبح الهيمنة للحروف كما في تشكيله الذي ينساب بسحر الكلمات محفوفة بعين فقط تطل في بؤرة اللوحة وكأنها شاهد او حارس لتلك الدنيا التعبيرية التي تتحدث الينا بلغة الفن . ربما كانت لوحة سيدة " سالي - يوسف " ايقاعا مختلفا ونسقا خاصا حين نطالع حسناء بوجه اخضر تتصدر المشهد قد تكون ملهمته تطل علي خلفية من الحروف والكلمات وجدائل شعرها تهتف باسم يوسف وسالي.. اما ردائها الفاتح فيبدو موشوما أيضا بالحروف . وفي لوحة " الله نور السماوات والارض "والتي تمتزج فيها الحروف بالمآذن والقباب فتمثل حالة من الابتهال الصوفي ودنيا من التشكيل والتعبير.. مرفأ حالم يتعانق فيه النغم المرئي والمسموع . في لوحات يوسف سيدة الاخيرة مزج بين الحروف والارقام.. كما جعل للارقام ايقاعات خاصة.. وامتدت رحلته مع تلك الايقاعات التي تسمو بأناقة التعبيرمن الحروف وشفرات العد والحساب لكن بألوان هامسة خاشعة مسكونة بالنور والصفاء.. الي ان رحل عن عالمنا عام 1994 .تحية الي روح يوسف سيدة الفنان الرائد بعمق لغته التشكيلية الفصيحة.