ولئن كان «صلاح عبدالصبور» شاعرا يمثل شعره بحرا من الفكر المتعاور الأمواج، فجاءت قصائده الأولي في معظمها تحمل شحنات مكثفة من الرمزية مع الدرامية والسرد، إضافة إلي معجم شعري يسير المفردات يلتقط بعض جمله من دارج الحديث اليومي للشارع. ومع توهج عبدالصبور الشعري وجزالة طاقاته الفكرية ورحابة مدي تصوراته لجأ إلي الدراما متمثلة في المسرح ليبث شحناته الفكرية ويبعث برسائله الرمزية، ورغم ان المسرح الشعري قد سبق «صلاح عبدالصبور» في الوصول إليه غير شاعر في طليعتهم أمير الشعراء «أحمد شوقي» إلا أن تجربة «عبدالصبور المسرحية شكلت ميلادا حقيقيا لمسرح شعري مستوف لشروط الدراما المسرحية ومسددا لاستحقاقاتها البنائية، فتربع عبدالصبور بحق علي عرش الدراما الشعرية ملكا متوجها، وان غيبه الموت جسديا في 13 أغسطس عام 1981 إلا أن مكانه المتفرد في مملكة الدراما الشعرية ظل شاغرا ولم يتبوأه أحد حتي الآن، وبتجوالنا في مسرح عبدالصبور نجد أن التيمة الغالبة عليه هي تناول لعبة المثقف ومواجهته للقهر وتدارسه لما يتاح له من خيارات تحقيقا لهذا الغرض، فتكون المقاومة إما بالكلمة/ الفكر أو بالسيف/ القوة وما بين الثورة والإصلاح يتأرجح المثقف في سبل مواجهة قهر السلطة. جاءت «مسافر ليل» ثاني مسرحيات «عبدالصبور» حداثية البناء، فهي من فصل واحد، وهي كوميديا سوداء تنتمي لمسرح العبث، كما عمد فيها «عبدالصبور» إلي استخدام تقنيات بريختية حيث الراوي يخاطب الجمهور فهو يورط المتلقي في الانغماس في مأساة المسافر الذي حاصره عامل التذاكر سلطان «الإسكندر الأكبر» وغيره من أسماء الطغاة، فطلب منه إشهار تذكرته ليأكلها عامل التذاكر ويحاكمه محاكمة جائرة يتهمه فيها بسرقة بطاقة الله، حتي يقتله، مع اكتفاء الراوي بمجرد المشاهدة: ماذا أفعل / في يده خنجر/ وأنا مثلكموا أعزل/ لا أملك إلا تعليقاتي/ ماذا أفعل/ ماذا أفعل، فالراوي/ المثقف قد اكتفي بالفرجة علي عامل التذاكر/ عشري السترة/ السلطان المستبد في انتهاكه للراكب «المواطن/ الشعب» الذي ينتهي بقتل الراكب/ الشعب، وعشري السترة يحيلنا إلي السترة العسكرية فهو الحكم العسكري، ونلحظ ان فضاء النص المكاني «عربة قطار» والتي تشكل فضاء مغلقا مقارنة بفضاءات مأساة الحلاج، وهي مكان لا يمكن الخروج منه بالنسبة للراكب/ المواطن/ الشعب في أي وقت يشاؤه وكأنه محبس وقتي، وفي هذا الفضاء المكاني/ عربة القطار تتقاطع مع زمن مستهلك ووقت مهدر/ زمن رحلة القطار أي أن التواجد في هذا المكان موسوم بإهدار الوقت، والإشكالية التي يختلقها عامل التذاكر/ عشري السلطة/ الديكتاتور هي سرقة بطاقة الله بما يشي بلعبة الاستبداد باستخدامه لعبة الدين/ العبادة خلقا لمبررات تتمسح بمسوح أخلاقية بغية الإجهاز علي معارضيه ووأدا لإرادة شعبه، فيصدر عامل التذاكر نفسه علي أنه الإسكندر الأكبر، ليقتنع الراكب ويناديه بالإسكندر الأكبر بما يشي بتزييف وعي الراكب/ الشعب المقهور بل يتمادي العامل/ المستبد في ترويع الراكب وإزلاله فيقول عامل التذاكر: لا تعرف قدري يا جاهل/ قسما سأروضك كما روضت المهر الجامح، وتشي مناداة عامل التذاكر/ الحاكم للراكب/ الشعب ب «يا جاهل» إلي منظور استعلائي متغطرس يدعي احتكار المعرفة وامتلاك اليقين المطلق ثم يقول الراوي: تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن/ يستخرج صوتا ملفوفا، ثم تتوالي الأدوات/ أسلحة المستبد التي يخرجها «خنجر/ غدارة/ أنبوبة سم/ حبل» ونلحظ ان الراوي يدعو عامل التذاكر بالإسكندر الأكبر في إشارة إلي تواطؤ الراوي/ المثقف مع عامل التذاكر/ الديكتاتور في تزييف الوعي، ونلاحظ أيضا أن أسماء عامل التذاكر سلطان وتحيل إلي التسلط وزهوان تحيل إلي شدة الزهو، كما يستدعي أسماء العديد من الطغاة وكأن الطغاة يتناسخون متقنعين بوجوه أسلافهم من المستبدين، بينما تأتي أسماء الراكب «عبدالله/ عباد/ عبدون» من الجذر اللغوي عبد والذي يحيل علي معني الخضوع والضعف والاستكانة، ونجد الراكب إزاء تهديد عشري السترة بقتله، فإذا بالراكب يستعطفه ضارعا: هل تجعلني سرجا لجوادك؟ هل تجعلني فرشة نعلك؟/ فلتجعلني فحاما في حمامك/ اجعلني خفيك الذهبيين/ لكن لا تقتلني أرجوك. فيرد العامل فيما يشكل مفارقة تجسد تماديه الاستبدادي: ضاقت نفسي بركوب الخيل الآن/ يندر أن أمشي، يؤلمني اللمباجو. ثم يمد العامل يديه الفارغتين نحو الراكب الذي يتضرع إليه: تقتلني بيدك؟ لا.. لا/ اصنع بي ما شئت/ لكن لا تقتلني. فيتمادي العامل في عبثيته ليرد: ماذا..؟ / لم تصرخ يا سيد؟/ هل تحلم/ لم تجمد كالفأر المذعور؟ لا أظن بأنك لم ترتكب قاطرة من قبل/ أوه لم يشحب وجهك حين أمد إليك يدي؟ / أو لا تعرف ما أطلب؟ / أو لا تعرفني، فالعامل يعمل علي خلخلة وعي الراكب بسؤاله الأخير وهو ما يظهر في رد الراكب: أنت الإسكندر الأكبر. فيرد العامل: ليس اسمي الإسكندر.. اسمي زهوان/ الراكب: بم تأمر يا مولاي ال.. زهوان؟/ عامل التذاكر: مذعور وغبي/ أو لا تدرك من ثوبي ما أطلب؟/ أطلب تذكرتك، ليبدو اضطراب وعي الراكب الذي اقنع بأن العامل هو الإسكندر ثم يعود العامل ليخلخل وعي الراكب، نافيا ما أجبر الراكب علي الاقتناع به فيتجلي ارتباك الراكب في تأرجح وعيه: «يا مولاي ال.. زهوان» وكأنه أراد ان يقول الإسكندر الأكبر فنطق «ال» ثم أدركها ب «زهوان»، فما إن يقدم الراكب إلي العامل تذكرته يلتهمها العامل، ان التذكرة وأكلها لهما فاعلية تأشيرية، فالتذكرة انما هي وثيقة أو صك يكفل للراكب حقه الوجودي، بالتواجد علي متن القطار لقاء مبلغ من المال يدفعه الراكب وأكل العامل/ الديكتاتور والتهامه لتذكرة الراكب/ الشعب المقهور انما يشي بالسطو والمصادرة لحقه في الوجود. تجيء مسرحية عبدالصبور الثالثة «الأميرة تنتظر» عبثية التكنيك، ومن فصل واحد إلا أنها تنتاح من آبار الموروثات الشعبية ما تصبه في وعاء الحكي، حيث أميرة يقتل أبوها علي يد حارسه «السمندل»، فتنفي مع وصيفاتها الثلاث إلي جزيرة التي ترمز إلي العزلة عن الناس/ العالم الآخر والمحاصرة بالماء، فتمارس كل ليلة طقوسا أشبه بطقوس السحر، إذ تقوم مع وصيفاتها بتمثيل لعبة تسترجع فيها أيام الملك، لتستمر علي هذا الحال خمسة عشر عاما، «الوصيفة الأولي: خمسة عشر خريفا منذ حملتنا في العربة/ من بين حقائب ماضيها/ الوصيفة الثانية: خمسة عشر خريفا منذ فارقنا قصر الورد/ ونزلنا هذا الوادي المجدب/ إلا من أشجار السرو الممتد/ كتصاوير الرعب» فيبتدي من خلال تعامد أشعة الزمن علي سطوح الوعي، فالزمن/ الخريف/ وحدة الوعي لقياس الوقت، والخريف هو وقت الجدب وتساقط أوراق الشجر والمكان بالفعل مجدب، إلا من أشجار السرو الموحشة، وربما تلمح فترة الخمسة عشر عاما حيث كتب في المسرحية بعد نكسة 1967 إلي حركة 1952 وما تبعها من حكم عسكري أطاح بالملك ونفاه واستبد بأمور البلاد، وكأن الأميرة تلجأ إلي حيلة دفاعية/ النكوص إلي الوراء واستعادة الماضي لعدم احتمالها واقعا مريرا، لا تقوي علي التعايش معه، لذا توقف عجلة الزمن وتمثل الأميرة مع وصيفاتها وقائع عهد الملك والمجد السعيد، فالأميرة والوصيفات/ أصحاب الحق/ أهل الثقافة يلجأن إلي «الانتظار» لانعدام القدرة علي استعادة الملك/ الحقوق المشروعة. تدور رابع مسرحيات «عبدالصبور» حول مجموعة الصحفيين يعملون في مجلة صغيرة، والمنظر الأول من فصل المسرحية الأول في غرفة التحرير وقد علقت علي الجدران صور لبعض قادة النضال القومي وعلي الجدار المواجه المائدة لوحة «دون كيشوت» فتلعب عناصر الديكور دورا معاونا في إنتاج دلالات النص فتبدو لوحة النضاليين في مقابل لوحة «دون كيشوت»، ذلك الفارس الإصلاحي الثائر الذي جابه بمفرده طواحين هواء مما يشي بعزلة ما في مواجهة رياح عاتية، ومن البداية يصدر سعيد قضية تدني أسلوب إحدي الصحف الرائجة: أسلوب كالطرقات المتعرجة/ يتسكع فيه فكر مخمور، فيرد زميله حسنا: حقا هذي صحف القصر وأبواق المستعمر، ويطلق سعيد تساؤلا: ماذا نملك إلا الكلمات؟/ هل نملك شيئا أفضل؟ فيرد حسان: ما تملكه يا مولاي الشاعر/ لا يطعم طفلا كسرة خبز/ لا يسقي عطشانا قطرة ماء/ لا يكسو عري عجوز تلتف علي قامتها المكسورة/ ريح الليل/ لابد من الطلقة والطعنة والتفجير، ثم يخبره بأنه يجمع القلم في جيب والمسدس في آخر، فمن البداية يسفر الصراع الدرامي عن جانبي وجهه الرئيسيين وهما الكلمة/ الفكر في مقابل المسدس/ القوة/ العنف وأيهما يتخذ وسيلة لمقاومة القهر، حتي الأستاذ/ رئيس التحرير ليقترح عليهم تكوين فرقة تمثيل، تجتمع لمرة أو مرتين في الأسبوع من أجل البروفات، ثم يقترح عليهم التدريب علي مسرحية «مجنون ليلي» لأحمد شوقي، فيخاطب الأستاذ الصحفيين: ستغني مجموعتنا كي نتعارف/ إذ تندمج الأصوات وتتآلف/ نلقي عن أوجهنا أقنعة العمل المعقودة/ ونعود إلي بشريتنا المفقودة، ويشي التوالي القافوي لحرف الفاء في مختتم سطرين شعريين، ثم الدال في سطرين تاليين لهما بالترابط والتآلف ما بين الزملاء وسرعة العودة إلي بشريتهم المفقودة، وكأن للفن/ الإبداع دورا سحريا فعالا في العمل علي تآلف البشر، واسترداد شعورهم ببشريتهم أي بكينونتهم، وفي توزيعه للأدوار يقع اختيار الأستاذ علي سعيد، ذلك الشاعر للعب دور الشاعر المجنون بليلي، وتلعب زميلته في المجلة «ليلي» دور «ليلي» أيضا فتلعب المفارقة الاسمية دورا في تسليط الضوء ما بين الاثنتين ليلي الصحفية وليلي الحبيبة في النص الإبداعي المطلوب تمثيله من تشاكل، وهو ما يتبدي في تضايق زياد لعدم إسناد دور له بالمسرحية، إذ يقول: لا أعرف لي دورا حتي الآن/ شبح يبحث عن جسم يسكن فيه/ في لعبتنا، أنا ظل أو راوية يحكي ما أنشده/ صاحبه الموهوب/ أما في لعبتنا الكبري، ما يدعوه العقلاء حياة أو، أياما/ أو مستقبل/ فأنا.. أنا لا شيء/ رجل يهرب من صورة طفل، فثمة انتقال متراوح، تجريه الشخصية من الخاص إلي العام، ومن الجزئي إلي الكلي، يخلص فيه إلي عدم التحقق، وانعدام التواجد المؤثر علي جميع الصعد، فصلاح عبدالصبور يقيم في هذه المسرحية مسرحا داخل المسرح، فينشئ توالدا حكائيا، ويبدأ الزملاء في عمل «بروفات» علي النص المختار حتي يعود إليهم زميلهم حسام، الذي كان مسجونا لآرائه السياسية، ليدور في المنظر الثالث جدالا حادا بين سعيد وليلي، حيث يستجوب سعيد ليلي حول إذا ما كانت تحب حسام؟/ ليلي أرجوك/ لا تلتصقي بالصمت كما يلتصق اللبلاب الخائف/ بالشجرة/ هل كنت تحبين حسام؟/ فلقد انهكني شهران من الشك/ منذ بدأنا التدريب علي الأدوار، فتأتي الجمل الحوارية في مطلع الاستجواب متتابعة لسعيد إذا تطول فقراته الحوارية بما يجسد انفعالا مكبوتا لدي سعيد إذ تعتريه شكوك وتموج بعقله تساؤلات عن علاقة محبوبته ليلي بزميله حسام بينما تأتي جمل ليلي بالغة القصر، حيث كانت ردودها قصيرة بما يعكس حالة من التهيؤ للرد والتفكير بما سترد علي هذا الاستجواب الموجه إليها، ثم لا تلبث جمل ليلي أن تطول بعد ذلك، إذ تدافع عن نفسها فتقول له: إلا إن كانت نفسك تتلذذ بالشك/ كما يتلذذ خفاش بالدم، وتمضي ليلي في دفاعها المتدفق عن النفس لتؤكد لسعيد محو ذكري حسام: صدقني إن حساما لا يعني عندي شيئا/ لما غاب قليلا/ انزلق علي ذاكرتي مثل الغبش علي سطح الكأس/ الملساء، فيدافع سعيد عن نفسه، سعيد: ليلي/ إني رجل مرهق/ جاوزت العشرين ببضع سنين/ لكني أشعر أني متغضن/ ليلي/ إني أتعلق من رسغي في حبلين/ الحبلان صليبي وقيامة روحي/ الحرية والحب، ويبدو فيما ساقه سعيد مدافعا عن نفسه في انفعاله حين يستجوب ليلي تلازم عناصر الصورة وتكامل أبعادها، حيث حبلان يشكلان صليبا وقيامة، وهو ما يتوافق مع العقيدة المسيحية التي تؤمن بصلب السيد المسيح ثم قيامته، كما يعلن سعيد مبتغاه الوجودي «الحرية والحب» بما يشي من تلازم قائم بينهما، ثم يجري المنظر الأول من الفصل الثاني في غرفة يسكنها سعيد، حيث تزوره ليلي لتطالبه بتحديد موعد لزواجهما إذ تخبره بسؤال زميلتهما سلوي عن موعد زواجهما، فتخبره ليلي قائلة: قلت لها ما أعرف/ أني لا أعرف، فتبدو المفارقة في أن المعرفة تتمثل في انعدام المعرفة، فيمضي الحديث بينهما حتي يتذكر يوم وفاة أبيه وتداعيات أحداثه: أتذكر هذا الصوت/ بائع صحف يذكر مصرع طلاب شهداء كانوا يحتجون علي شيء ما، أعرفه الآن/ مات أبي في فرشته مطحون الصدر من الإعياء/ يوم استشهاد الجراحي ورفاقه، فينتقل بذلك من الخاص إلي العام من موت أبيه- الذي يتعامد علي حدث استشهاد الرفاق في المظاهرات بما يضفي مسحة من الواقعية علي الأحداث التي تجترها الذاكرة، ثم يقسم المسرح إلي شطرين الأول غرفة سعيد إذ هو جالس مع ليلي والآخر يقيم «فلاش باك»، حيث يسترجع سعيد ذكريات الطفولة المريرة بعد وفاة أبيه. الأم: ويلي من أيامي روحي مترعة بالحزن وقد اجتثت شجرتنا الوارفة الظل وانهدمت بوابتنا المنقوشة بالريحان والفل فيمكن تأويل هندسة الجمل الشعرية، حيث تدرج في أطوال الأسطر الشعرية فكل سطر أطول من سابقه بما يمكن تأويله بتنامي الشعور بالمرارة مع استرسال الأم في عملية البوح، فيسترجع سعيد موقف اضطرار أمه إلي الزواج بآخر حتي ينقذها من الجوع، سعيد: في بلد لا يحكم فيه القانون/ يمضي فيه الناس إلي السجن بمحض الصدفة/ لا يوجد مستقبل/ في بلد يتمدد في جثته الفقر، كا يتمدد ثعبان/ في الرمل/ لا يوجد مستقبل/ في بلد تتعري فيه المرأة كي تأكل/ لا يوجد مستقبل، فثمة تكرار لجملة «لا يوجد مستقبل» التي تقف كجملة محورية وكنتيجة شرطية ولازمة عن تردي أوضاع الوطن، وانتشار الفقر، وفي المنظر الثاني من الفصل الثاني: يجلس سعيد وحسان وزياد في حانة لاحتساء الخمر، وكأن جلسة هؤلاء الثلاثة/ المثقفين وطلبهم للخمر التي تغيب الوعي إنما تشي بشعور مرير بالإحباط والفشل ورغبة في التحايل علي واقع مؤلم فيهربون من مواجهته باحتساء الخمرثم يدخل عليهم سعيد الذي يسألونه أن ينشد لهم شعرا، فيتلو عليهم اخر أشعاره: «يوميات نبي مهزوم يحمل قلما، ينتظر نبيا/ يحمل سيفا»، فكأن النبي المهزوم والذي يحمل قلما هو المثقف الإصلاحي الذي تملكه اليأس، والانتظار كما كانت الأميرة تنتظر يعني تجميد الموقف وإرجاء الحسم، فالانتظار يكون لنبي يحمل سيفا أي للثوري، أما في المنظر الثاني: يتوجه حسان لمنزل حسام بعد أن اكتشف أنه أصبح جاسوسا للأمن، ويلحق به سعيد حتي يشاهد عنده حبيبته ليلي، يطلق حسام النار علي حسام فتخطئه، بينما يذهب سعيد في إغفاءة وما إن يستيقظ سعيد حتي ينهال بتمثال علي رأس حسام، الذي يصرخ مجنون مجنون وكذلك ليلي، أما في المنظر الختامي يترك الصحفيون العمل بالمجلة في إشارة إلي يأس المثقفين من جدوي عملهم، ويدخل سعيد السجن، كذلك يلعب الإيقاع وهندسة الجمل دورا في صياغة الدلالة، يقول زياد: لكن هل جد جديد في دورة أسبوع/ مازال القصر هو القصر/ والاستعمار.. الاستعمار/ والأستاذ.. الأستاذ/ وزياد المجنون زياد/ وحنان العاقلة حنان، فثمة تماثل تركيبي، كذلك فإن محمول كل جمل هو نفسه موضوعها، بما يشي بثبات الأوضاع وجمودها بلا أمل في التغيير، كما يحفل البناء الشعري لعبدالصبور بعديد من الصور التي تمتاز بجديتها ودلالتها العميقة، يقول الأستاذ/ رئيس التحرير عن مجلته: من بضعة أشهر/ ومجلتنا تتألق كالوشم الناري علي ساعد هذا البلد/ الممتد/ أسد لا يحمل سيفا/ بل يحمل بوقا يصرخ في صحراء الزمن اليابس/ كي يحيي جثث المرضي المتكئين علي سرر البلوي/ والخوف المقعد، نري صور عبدالصبور ممتدة يرتدي فيها المشبه أكثر من قناع للمشبه به، فالمجلة كالوشم وكالأسد، فيبرز تناص مع الإنجيل، إذ تضطلع المجلة بدور يوحنا المعمدان الموسم في الإنجيل، أنه «أسد صارخ في البرية» مما يجسد دور المجلة الإصلاحي وفاعليتها التنويرية، ويبدو لنا أن «عبدالصبور» إذ يجعل مجلته يعمل بها ثلاث محررات في مقابل أربعة من الذكور والأستاذ بما يمثل نسبة 37% من العاملين إنما يأتي من منظور سبعيني وهو زمن كتابته العمل الإبداعي، لا من منظور الزمن المفترض للأحداث قبل ثورة 1952 الذي لم تكن المرأة تأخذ فيه هذا المجال المتسع مع فرص العمل، الذي لم يتحقق إلا مع المشروع النهضوي الذي منح للمرأة مجالا رحبا من منافسة الرجل في أواخر الخمسينات وحقبة الستينات. هي آخر مسرحيات عبدالصبور الخمس، حيث ملك يستبد بكل شيء، «مادمت أنا صاحب هذي الدولة/ فأنا الدولة.. أنا ما فيها.. أنا من فيها/ أنا بيت العدل، وبيت المال، وبيت الحكمة، بل إني المعبد، والمستشفي، والجبانة، والحبس/ بل إني أنتم، ما أنتم إلا أعراض زائلة تبدو في صور منبهة/ وأنا جوهرها الأقدس، فالملك/ الحاكم الديكتاتور يري نفسه كل شيء هو أفراد المملكة/ الدولة وهو مؤسساتها، وتحلق في هذه المسرحية تيمة الموت، فكل ما يلمسه الملك يموت «النهر والقصر والحاشية» فأسموه الموت الأعظم، فأصبح الملك مرادفا للموت، ورغم تقليدية البناء المسرحي للمسرحية المكونة من ثلاثة فصول إلا أن ثمة نوعا من العبثية فيها ومن التقنيات الحداثية، تتمثل في كسر الحاجز الرابع بين الشخوص والجمهور حين تدخل الوصيفات في حوار مع الجمهور، كذلك يلعب الشاعر/ المثقف دوراً محوريا في المسرحية فيكتب أشعارا ترددها المحظيات للملك في مقابل إسداء الملك بعطاياه إلي الشاعر/ بيع المثقف طاقاته خدمة للطاغية، وهو يستحضر خطابات «صلاح عبدالصبور» في قصيدة سابقة لحكاية المغني الحزين: وموقفي يا ساداتي في آخر الممر/ وكلنا بدون أسماء ولا سيوف/ وكلنا مؤجر بالقطعة، إلا أن هذا الشاعر ينتفض في النهاية ليصرع الجلاد/ ذراع الملك/ الديكتاتور وآلية بطشه، فتخاطبه الملكة: أنت صرعت الجلاد/ وصرعت الخوف/ عزف المزمار نشيد الأم/ بينما أصبح سيف الجلاد الغاشم/ أعمي لا يجد طريقه/ أقدم/ خذ منه السيف، فيضرب الشاعر الجلاد بالمزمار في عينه، فانتصار الشاعر المثقف علي الجلاد/ أداة السلطة الباطشة كأن بالمزمار/ الفن/ الثقافة/ والذي به سحق السيف/ القوة الباطشة.