لا أدري لماذا حرك د.جابر عصفور المواجع، فقرر الاحتفال بمرور خمسة وعشرين عاما علي رحيل صلاح عبدالصبور الشاعر الذي لا نظير له، والذي لم يشبه احدا ممن قبله، ولكنه هضم كل من سبقوه من شعراء، لا يشبهه احد من اقرانه او ممن جاءوا بعده، لان احدا منهم لم يهب الشعر كل الوجود كما فعل صلاح عبدالصبور. ومازلت اشعر انا كاتب هذه السطور باني واحد من اسعد الناس حظا في هذا العالم لاسباب تبدأ دائما بوجود قامتين اثنتين في حياتي، اولاهما صلاح عبدالصبور الشاعر والثانية: فتحي غانم الروائي الذي لا نظير له. ولست ادري كيف يتسني للاجيال الجديدة ان تعرف قيمة هذا الشاعر دون ان توجد اعماله الشعرية كاملة في متناول الايدي، ومازلت اذكر بالخير ما فعله الراحل الكريم سمير سرحان حين اصدرت الهيئة العامة للكتاب اعمال الشاعر الكبير كاملة لا من الشعر فقط، ولكن كل ما انجز طوال عمره القصير. كان صلاح عبدالصبور وهو في الخمسين يقول لي: "لقد صرت عجوزا يا منير" وكنت أنفي عنه الشيخوخة واخاف علي قلبه من اول سهم اصابه بجرح غائر، حين استدعاه د.عبدالقادر حاتم في زيارة لا سبب لها، وعندما غادر صلاح مكتب د.حاتم وعاد الي مكتبه بالمؤسسة المصرية العامة للكتاب وجد المكتب قد أزيل من موقعه. فذهب الي جريدة الاهرام كي يلتقي بالاستاذ هيكل، فكانت النتيجة انه تلقي في منزله تليفون اعتذار من د.حاتم، فقد كان جمال عبدالناصر يعرف قيمة صلاح الشاعر والانسان، ثم كان السهم الثاني حين اصر يوسف السباعي علي ان يغلق مجلة "الكاتب" التي تحمل الفكر الناصري وان يستبعد الناقد الكبير احمد عباس صالح من قيادتها، واصر علي ان يتولي صلاح عبدالصبور رئاسة تحرير المجلة، وقبل صلاح بشرط الا يسيء احد الي من سبقه في هذا الموقع فقد كان حريصا علي قيمة زميل الايام الصحفية احمد عباس صالح، علي الرغم من ان بين الاثنين تنافسا قديما علي بطلة واحدة في قصة حب خائبة لكل منهما. كان صلاح يضحك وهو يقول لي: "كنا نحن الاثنين مخدوعين في تلك الحكاية كلها". واتذكر ان الرئيس السادات اراد ذات نهار ان يسقط الجنسية عن الكاتب الكبير محمود السعدني وعن الراحل جلال كشك، فتصدي صلاح عبدالصبور قائلا في الاجتماع الذي انعقد لدراسة كيفية تنفيذ ذلك، وقال كلمة مشهورة "تذكروا ان السادات هو قبضة من تراب مصر، مثله مثل محمود السعدني ولم يتركز الوطن ابدا في شخص حاكم. وانتهي الاجتماع برفض الفكرة التي جاءت من نبوي اسماعيل وزير الداخلية في عهد السادات. ثم جاءته الكلمة القاتلة من صديق الايام الاولي الرسام بهجت عثمان الذي قال له "انت بعت بكام؟" وكان بهجت عثمان يقصد ان صلاح عبدالصبور تنازل عن افكاره وايمانه بصيانة انسانية كل مصري، ولم يتحمل صلاح عبدالصبور ان يشك فيه من رسم ديوانه "اقول لكم". وهنا هجمت النوبة القلبية التي سرقت منا من هو في قامة صلاح عبدالصبور، وهو الذي لا يتكرر. ارجو من د.جابر عصفور ان يصدر اعمال صلاح الشعرية الكاملة في المجلس الاعلي للثقافة، فتخليد الرجل النادر امر حيوي ومهم.