يعيش ثوار 25 يناير حالة من القلق والإحباط تكاد تصل إلي حد اليأس، ذلك أن الحدث العظيم الذي غير وجه العالم وأثبت أن للشعب المصري وجها حضاريا مغايرا لما يتصوره الجميع قد آل إلي الصفر تقريبا .. فلا نظام مبارك سقط بالفعل ولا تحققت الطموحات الثورية والأهداف التي راح من أجلها شهداء وأصيب من أجلها الآلاف .. فهل انحرفت الثورة عن مسارها المفترض أم اختطفها المجلس الأعلي للقوات المسلحة لصالحه ؟ .. كانت المحاكمات العسكرية مقتصرة علي قضايا بعينها قبل الثورة وبعدها أصبحت للجميع وكان الإعلام يبدو أكثر حرية مما هو عليه الآن وكانت الأحوال الاقتصادية - رغم سوئها - أفضل كثيرا مما هي عليه .. كانت مصر غارقة في الفساد والانهيار المنظم لكن الشخص كان يستطيع أن يسير في الشارع آمنا دون أن يهاجمه كابوس الانفلات الأمني ..أليست الثورة كابوسا طبقا لهذا المنطق؟ الآن وطبقا للحالة السابقة فإن الثوار يخسرون الشارع بشكل منتظم وتدريجي ويومي بل وقد نفد رصيدهم تقريبا وبقي التشرذم في عشرات الائتلافات والأحزاب وأحكم المجلس الأعلي للقوات المسلحة قبضته علي الدولة نسبيا وسارع الإخوان بالتواؤم معه فخرجوا بعد الثورة من "حظرهم " إلي علانية فخورة بذاتها لحد الغرور وبدا الأمر كما لو أنهم الرابح الوحيد من مغامرة جريئة قادها شباب الثورة اللامنتمي لقوي سياسية ليحاول حزب الوفد اختطاف ثمرتها في البداية ولا يقوي علي ذلك وتستقر كقطة وادعة بين يدي الإخوان والتيار السلفي المستجد علي الساحة والسياسة وما يصاحبه من حماقات . أما المواطن الذي بلغ به التفاؤل حد السكر فقد عاد إلي صمت محبط وسخط مخزون منذ الاف السنين.. عاد إلي عمله بعد استبدال رئيسه أو عدم استبداله شكلا وبقاء المنهج .. عاد إلي أزماته التي استفحلت أكثر.. وعاد إلي مساحة من الخداع كان يمارسها الوريث وأسرته نعرف جميعا أنها حالة خداع من أناس شاءت الصدفة أن يقبضوا علي مقدرات الشعب ليكتشف مساحة خداع بديلة تماما وإن كانت أكثر قسوة وقبحا أنهم أشخاص انتمي معظمهم للنظام السابق واستفاد منه وقد تحولوا إلي مناضلين كبار وبلغ الأمر بعضهم أن أصبحوا يمولون أكثر من ثلاثة أحزاب بينما انخرط آخرون في نجومية فضائية وعاد الكثيرون إلي أعمالهم كأنما تحققت جميع الأهداف التي قامت من أجلها الثورة. يبقي السؤال هل اغتيلت الثورة.. هل خرجت عن مسارها.. هل اختطفت.. وكيف نستعيد ثورتنا؟ الإجابة عن الأسئلة السابقة بسيطة جدا.. لم يتم اغتيال الثورة ولم تخرج عن مسارها ولم تختطف ولن تستعاد أبدا .. ذلك أن ثورة 25 يناير لم تكن سوي بروفة لثورة تتخلق في رحم مصر وكلما قاربت علي موعد الولادة أجهضت .. ومثلما حدث في ثورة 1919 وفي عام 1977 حدث في يناير 2011 بفارق كبير جدا .. يناير 2011 لم يكن إلا إجهاض لثورة أو ميلاد لجنين مبتسر ناقص النمو لا نتوقع منه أكثر من إعادة إنتاج نظام مباركي دون جمال أو سوزان وان ظل وجودهما دائما احتمال وارد وكبير .. وهذا التوقع ليس الا واحدا من أهداف الثورة - البروفة وليس انحرافا عن مسارها. البحث عن الرأس لعل أجمل وأبرز ما في أحداث 25 يناير الثورية هو تلك الرومانتيكية الجميلة والتي جعلتها أشبه بقصة حب كان موعدها في ميدان التحرير وما أبهر العالم - في الحقيقة - هو أن الأحبة لم ينتظروا من ينظف الميدان بعدهم بل نظفوه بأنفسهم بعد أن انقضي الموعد وقرر الجميع تقريبا العودة إلي بيوتهم يوم 12 فبراير متصورين أن القصة الجميلة توجت بزواج مع الحضارة والديمقراطية والعدالة والكرامة لكن هؤلاء الذين عادوا إلي بيوتهم بعد ثمانية عشر يوما كانوا يسيرون مخدرين وراء قياداتهم التي حركت الثورة قبل البداية ولأعوام قليلة سابقة وهي قيادات بعضها لم يكن له أدني علاقة بالعمل السياسي ورغم ذلك كان علي قناعة تامة بضرورة سقوط النظام - الرئيس وأسرته وبطانته -.. بعضهم رجال أعمال والبعض الآخر مثقفون وإعلاميون لم يزعموا يوما وجود علاقة بينهم وبين النضال أو بينهم وبين وجود عدالة اجتماعية. تلك القيادات يحسب لها دور عظيم في قيام - إجهاض ثورة طالما تمناها الحالمون من أرباب النضال في الشوارع ومن رواد المعتقلات من الاشتراكيين واليساريين القدامي فقد تبني أغلبهم غضب الشباب وقاموا علي رعايته وإعادة برمجته ليكون غضبا فاعلا لأن تغيير مبارك وزمرته كان أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لهم رغم أنه يفترض فيهم أن يكونوا سند الحاكم والطبقة التي ينبغي لها تأمينه وصنع التوازن السياسي الداخلي الذي يحفظ النخبة بكل أنواعها في أبراجها العاجية ويحفظ العامة والفقراء في مصانعهم ومهنهم وأحيائهم العشوائية بالحد الأدني من التشغيل والحد الأدني من التعليم والحد الأعلي من الخداع الثقافي والإعلامي لكن مبارك وأسرته وزمرته أحرقوا علي مدار ثلاثين عاما الأرض حولهم ولم يبق للحريق سوي أن يلتهمهم أخيرا . لم يفهم الرئيس المخضرم وأسرته أن الطبقة البرجوازية العليا من المثقفين الأغنياء والرأسماليين " بعض رجال الأعمال الشرفاء " وأبناء وأحفاء نبلاء واقطاع ما قبل ثورة يوليو ومن يسيرون في ركاب كل هؤلاء هم الحافظة الحقيقية لكرسي الرئيس وتصور الرجل أن مصر ميراثه بالفعل واعتمد علي جهازه الأمني بأرجله الأخطبوطية في مهمة واحدة هي حفظ الأمن السياسي ومنه انطلق الجهاز إلي حمل عبء الحكم من المدارس إلي الجامعات والصحف وحتي الجمعيات الاستهلاكية ... فتوحش الأمن الذي لم يحلم بكل تلك القوة والسلطة ومارس الحكم بعقل أمني بينما تفرغ الرئيس وأسرته لاثبات السيادة ورعاية المصالح الفاسدة له ولزمرته وجاء دور جمال مبارك بعد علاء ليسحق من يغضبه من رجال الأعمال والمثقفين ويقصي ويبعد من لا يجده علي هواه واستبعد رجلا شريفا مثل حسب الله الكفراوي بعد ثلاث استقالات وكشفه لسر بسيط هو اتجار جمال مبارك في ديون مصر واستبعد وزير الدفاع الذي أحبه الشعب - المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة - لمجرد أن الرجل أصبحت له شعبية وكذلك الوزير السابق الدكتور أحمد جويلي وسواء اختلفنا أو اتفقنا حول عمرو موسي فقد استبعد بسبب الكاريزما التي يملكها بينما يفتقدها رئيسه. بمنطق الإقصاء والتوحش اغتال جمال مبارك أحلام الكثير من رجال الأعمال لعل أشهرهم حسام أبو الفتوح الذي تمت تصفيته تماما لخلاف علي اتاوة أريد لها أن تدفع لجمعية "جيل المستقبل " ومن ثم ذهب توكيل الماركة الشهيرة للسيارات إلي غيره لكن الرجل استطاع بناء نفسه مرة أخري وسجن الاستشاري الهندسي الأشهر في العالم ممدوح حمزة لعامين بتهمة مضحكة لجرأته في تحذير مبارك من سلوك زوجته وابنه الأصغر وتم تشويه سمعة الدكتور أحمد زويل لأنه أبدي رأيا في عدم جدية الحكومة في انشاء أكاديمية زويل .. هؤلاء هم الأشهر بين من طالتهم يد الاستبعاد ثم تلاهم الدكتور أسامة الغزالي حرب الذي رفض التوريث فجرد من كل مكتسباته .. هؤلاء جميعا ينتمون تقريبا إلي طبقة برجوازية عليا يفترض فيها تحسين وتزيين وجه النظام بوجودها - بالحد الأدني - والابقاء علي شعرة معاوية بين رئيس وشعب يعتبر يوما جديدا بمثابة عبء جديد حيث يعمل الرجل أغلب ساعات يومه ولا يستطيع أن يكفي أسرته ويتخرج الشاب ولا يجد عملا .. شعب بلغت نسبة العنوسة فيه - لأسباب اقتصادية - نسبة قصوي ووصلت نسبة البطالة في بعض الاحصائيات غير الرسمية فيه إلي 18 %.. شعب لم يستطع 70% من شبابه علي الأقل أن ينجو من اهانة رجل شرطة فضلا عن التعذيب والسجن والاعتقال لمن يشتم فيهم رائحة الاختلاف أو ممارسة نشاط سياسي معاد لحزب الرئيس وابنه وزوجته هذا الشعب كان يعرف أيضا نظرا لثورة الاتصالات والفضائيات أنه يسرق تاريخا وجغرافيا وثقافة وحاضرا لكنه كان - رغم كل شيء- يتردد في دفع ثمن المستقبل . التحول لم يكن مقتل خالد سعيد الشاب الذي ينتمي إلي الطبقة البرجوازية العليا هو بداية التفكير في ضرورة تغيير رئيس الجمهورية وشلة ابنه وعلي رأسهم وزير داخلية متغطرس ومتعال بدعم الابن والزوجة لكنه كان بداية التفكير في تنفيذ فكرة التغيير .. ولعل تسمية "كلنا خالد سعيد " لا تنطبق تماما علي شباب مصر لكنها تنطبق بالضرورة علي تلك الطبقة التي أطلق عليها "شباب الفيس بوك " في البداية ثم شباب الثورة بعد ذلك وهي تسميات لها أهميتها ومدلولها لتحجيم الثورة فيما بعد . خالد ولد وسيم وغني لم يهتم بالتعليم لكونه يعلم انه خلال أقل من عامين سوف يسافر إلي أخيه في الولاياتالمتحدة وهناك يبدأ حياته وسواء كان يتعاطي مخدرات أم لا فعلينا أن نعترف أن أغلب شبابنا يتعاطاها وفي كل الأحوال لا يبرر تعاطي أو حمل أو الاتجار في المخدرات لشرطي أن يقتل مواطنا أو أن يعتدي عليه بأي شكل .. خالد ينتمي لتلك الطبقة التي قد يتصادف وتركب تاكسي أو ميكروباص لظرف ما ويتوقف التاكسي اوالميكروباص في كمين من أكمنة المباحث ويقوم الشرطي بانتقاء شاب تلونت بشرته وجفت بحكم سوء التغذية وقد يرتدي ملابس رخيصة ليس فيها من التناسق ما يشي بكونه ابن ناس ويطالبه بتحقيق الشخصية وسواء كان سليما أو مزورا أو غيرهما يتم اصطحابه للاشتباه فالضابط يحتاج إلي انتاج يقدمه لرؤسائه وأولاد الناس الذين ركبوا مواصلات عامة بالمصادفة لا يعنيهم الأمر فغدا يتم اصلاح السيارة ويعود لبرنامج يومه العادي . كانت الطبقة "النظيفة " تتواطأ علي الصمت والعمي مقابل العيش والنجاة .. هذه الطبقة لم يستيقظ ضميرها حين تمت عملية الخصخصة وهي أكبر عملية نهب لمقدرات شعب في التاريخ وهولاء القيادات لم يثوروا حين انهارت مصر خارجيا وأصبحت دولة أكثر من مريضة ولم يثوروا حين طارت النعوش من العراق وحين طرد عمال مصر من ليبيا أكثر من مرة وحين احترق قطار الصعيد وحين غرقت عبارة ممدوح اسماعيل .. لكنهم ثاروا وقرروا أن تكون هناك ثورة حين اقتربت نيران الحمق والغطرسة والتدمير من أقدامهم فخالد سعيد ابن لهم وقد يكون ابن احدهم غدا.