الثورة ذروة التعبير عن رفض واقع قائم والعمل علي تغييره واستبداله بواقع جديد مغاير تماما لما هو قائم . بهذا المعني قامت ثورة 25 يناير، كتعبير عن عدم صلاحية النظام الحاكم لادارة الدولة المصرية، ومن ثمة وجوب هدم النظام ( الشعب يريد اسقاط النظام )، لاقامة نظام جديد يؤسس لمصر جديدة مختلفة عن مصر التي عهدناها منذ انقلاب يوليو 1952 الذي كرس حكم الفرد بدءاً من عبدالناصر ومرورا بالسادات وانتهاء بمبارك . الآن بعد أن تم إقصاء رأس النظام عن السلطة وحل الحزب الوطني الذي هيمن علي مقدرات البلاد خلال حكم مبارك، أقول كيف لنا أن نبني مصر الجديدة، التي حلم بها مفجروا ثورة 25 يناير؟ البناء عادة يتم بعد الانتهاء من عملية الهدم وإخلاء الموقع من مخلفات الإزالة والهدم، وقبل الشروع في البناء، ىُوضع تصميم لما يراد أن يبني، فماذا نريد أن نبني ؟ نريد أن نبني دولة جديدة هي علي النقيض من الدولة القديمة التي ثار المصريون من أجل زوالها . إذا كانت الدولة القديمة دولة حكم الفرد أي دولة استبدادية، فإن الدولة الجديدة المراد إقامتها، عليها أن تكون ديمقراطية . وإذا كانت الدولة القديمة لم يكن كل المصريين لديها سواء، فقد كانت تفرق بين المواطنين وتنحاز لفئة علي حساب فئة أخري، أن مفهوم المواطنة لم يكن واضحا في سلوكها العام. لذا فإن الدولة المبتغاة يجب أن تكون دولة كل المواطنين المصريين، الذين يعٌاملون علي قدم المساواة . وإذا كانت الدولة القديمة منحازة اقتصاديا لفئة من المصريين دون سائر الفئات الاخري، فازداد ثراء هذه الفئة المحظوظة بل صار ثراء فلكيا في أرقامه، وحشيا في طبيعته ! في مقابل ازدياد فقر وتدني حياة غالبية المصريين. الدولة التي نريدها عليها أن تعمل من أجل رفاهية كل المصريين، وأن تحقق العدالة الاجتماعية، وتعيد توزيع ناتج الثروة القومية توزيعا عادلا . كيف لنا أن نصل إلي هذه الدولة الحٌلم وكيف لنا أن نحقق وجودها علي ارضنا المصرية ؟ الغايات لابد لها من وسائل، نتوسل بها لتحقيقها، والاهداف لابد لها من آليات لكي نصل إليها . مصر الجديدة أزعم أن العلمانية هي المنهج والوسيلة لتحقيق حٌلم بناء مصر الجديدة. يعرف الفيلسوف المصري/ مراد وهبة العلمانية بأنها:التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق. نلاحظ وجود كلمتين في هذا التعريف : النسبي والمطلق، المقصود بالنسبي أمور وأحداث ووقائع وظواهر العالم الذي نعيش فيه، التي يحكمها قانون التغير وعدم الثبات (انك لا تستطيع أن تنزل النهر الواحد مرتين، لأن مياها جديدة تغمرك باستمرار) المعني هو أن أمور العالم زمنية، متغيرة لا تثبت علي حال . والكلمة الاخري : المطلق تعني ما هو مغاير لعالمنا، أي الثبات وعدم التغير والكلي، التعريف يظهرنا علي أنه من الخطأ الخلط بين الاثنين، ومن الخطأ أن نفكر في أمور العالم النسبية المتغيرة بطريقة مطلقة، أي أن نضفي عليها طابع الثبات، هذه الطريقة في التفكير تؤدي إلي الجمود وعدم حل مشكلات الواقع ذات الطابع النسبي المتغير،فالنسبي المتغير له مجاله ومن ثم النهج الخاص به والمطلق له مجاله المغاير لمجال الاول وأيضا طريقة التعامل معه . المطلق والنسبي والعلمانية يترتب علي الاخذ بالتعريف المذكور للعلمانية، أن نفصل الدين (المطلق) عن السياسة (النسبي)، فلا يتداخل الدين مع السياسة، وهذا لا يعني إنكار الدين ولكن أن امور الحكم وسياسة الناس لاتستند ولا تقوم علي الدين الثابت ذي الاحكام المطلقة ولكن علي قوانين وضعية مستمدة من جملة الظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، والحضارية النسبية المتغيرة، مما يسمح بالتطور والترقي والقدرة علي حل المشكلات . بهذا نحفظ للدين علوه وسموه وثباته ويصبح شأنا فرديا، أي يخص الانسان الفرد وليس الدولة لان المتدين هو الانسان الفرد الذي له روح والدين يشبع حاجاته الروحية ويسمح له بالتواصل مع الله والدولة ليست انسانا بالمعني السابق،وانما جهاز إداري ضخم يدير شئون الانسان او افراد المجتمع وبالتالي لا يجوز أن يقال دين الدولة ولكن الجائز هو دين افراد المجتمع او طوائف الدولة . يترتب علي هذا ان تقف الدولة علي الحياد من أديان او طوائف المجتمع الدينية، هذا لا يعني اطلاقا إنكار الدين ولكن الفهم الصحيح لموقف الدولة للدين . حين تقف الدولة علي الحياد دينيا، لا تنحاز لطائفة دون اخري ويقتصر دورها علي كفالة حرية العقيدة والعبادة وبناء دور العبادة .نستطيع ان نبني مصر الجديدة التي تعامل كل المواطنين والطوائف الدينية علي قدم المساواة، وينعم فيها الجميع بالحرية الدينية . حين تقف الدولة علي الحياد دينيا، يبرز مفهوم المواطنة بوصفه المعيار الاوحد في تقنين علاقة الدولة بمواطنيها، فلا تعامل ولا انحياز علي اساس ديني ومن ثم علي اساس عرقي، ومن ثم علي اساس جنسي، الكل متساوون في الحقوق والواجبات، حتي لو كان بعض هذا الكل ملحدا، لأن الدولة ليس من شأنها تقييم العقائد ولا البحث في الضمائر، مسئوليتها رعاية وكفالة مصالح وحرية مواطنيها، والمعيار الذي تفاضل به بين مواطن وآخر معيار الكفاءة والعلم . حين نرفع معيار الكفاءة والعلم والخبرة، فيصلاً في المفاضلة بين مصري وآخر، فإننا نحفز المصريين علي العمل واكتساب المهارات والتحصيل العلمي ونشر قيمة التنافس . أقول حين نفعل هذه الامور الجليلة والجميلة نبني مصرنا الجديدة دولة كل المواطنين، دولة العدالة والحرية، الدولة التي أحلم بها، والتي ازعم أن الطريق المؤدي إليها هو العلمانية.