لا يمكننا اعتبار العرض الأخير الذي قدمه الفنان «وليد عوني» باسم «مئوية الفنون» حدثا فنيا عاديا .. وعرضا راقصا مدهشا شأن بقية الأعمال الراقصة والاستعراضية التي قدمها «وليد عوني» في مصر.. منذ أن ترك عمله مع باليه موريس بيجار .. واختار مصر مقراً فنيا له ولموهبته التي تجلت بوقت مبكر وانطلقت منذ ما يقارب العشرين عاما .. أسس فيها «عوني» فرقة الرقص الحديث التابعة للأوبرا والتي انطلقت منها أعماله المميزة الكثيرة والتي أثارت الكثير من الجدل والنقاش والإعجاب .. وحازت علي تقدير المثقفين وعاشقي الفن في مصر والبلاد العربية والمهرجانات الأجنبية الكبري للرقص.. حيث استطاعت أن تفوز بجوائز مهمة وأن ترفع اسم مصر الفني إلي أعلي مستوي نحلم به. هذا إلي جانب التأثير الطاغي الذي أفرزته موهبة وعبقرية وليد عوني الراقصة واتجاهاته المبتكرة في الرقص الحديث والتي تجلت في نشوء عدد كبير من الفرق حاولت أن تسير علي منهجه .. وأن تتابع حمل «المشعل المضيء» الذي مازال يحمله. وقد ظهر ذلك بوضوح في عدد من الفرق الراقصة الحديثة التي كانت تشترك في مهرجان الرقص الحديث الذي كان يقيمه عوني تحت راية واسم الأوبرا المصرية ويدعو اليه إلي جانب الفرق المصرية التي يزداد عددها موسما بعد موسم.. عددا مهما من الفرق الأجنبية التي تخصصت في الرقص الحديث.. والتي كانت تعتبر بمثابة مدرسة حقيقية لرواد هذا الفن الصعب والدقيق والذي ابتدأ يشكل حوله عددا من العشاق والمحبين يتزايد يوما بعد يوم. أعمال وليد عوني الراقصة تتبع أسلوبين .. أسلوب يعتمد علي الابتكار في الرؤية والنظرة والمعالجة .. يستمد مادته من خيال عوني المبدع.. وهذا ما يستحق أن نفرد له بحثا مطولا .. لتقييمه وإبراز النقاط المضيئة الكثيرة التي تتلألأ في أطرافه. والجانب الثاني هو تكريس فنه الإبداعي الراقص لتقديم رؤياه عبر لوحات راقصة عن العلامات الثقافية الكبري في تاريخ مصر. وهكذا مثلا رأينا له عرضا يحمل اسم نجيب محفوظ وعرضا عن محمود سعيد وعرضا ثالثا عن فن وعالم الرسامة التشكيلية الشهيرة تحية حليم ورابعا عن عالم شادي عبدالسلام بكل ما يحتوي هذا العالم من رموز وطقوس وشارات وإيحاءات روحية وفلسفية وكونية وعرضا آخر خصصه للنحات الشهير «محمود مختار» وقدمه بإطار عميق من النضج والشاعرية استطاع فيه أن يجعل تماثيل وشخوص مختار تتكلم وتصرخ وتعاني وترفع رأسها المكلل بالغار إلي السماء الواسعة، وأن تترك أجسادها الممشوقة تتلاعب بها رياح القدر والكبرياء والعزة والجمال. ولم تبعد الفنانة اللبنانية فيروز عن طموحات وليد عوني فخصص لها عرضا استعرض فيه من خلال خلفيات أغانيها واقع الحرب الأهلية الضروس التي فرقت البلد الشقيق واستطاع من خلال هذا الصوت السماوي .. أن يطلق صرخة أمل وألم مجتمعين في حدود رؤية تشكيلية استغل فيها طبيعة حدائق الأوبرا وخضرتها الناصرة .. ليسجل في قلبها الدمار اللبناني ثم توهج وإشراق الأمل بعد هذا الدمار كله. ويتجه عوني إلي نضال المرأة المصرية فيصوره من خلال واحد من أكبر انصارها والمدافعين عن حقوقها فيقدم في «نساء قاسم أمين» صورة لمجتمع نسائي قابع تحت القمع الأسود.. ثم يرصد تحرره وانطلاقه كما تنطلق الفراشة من شرنقتها، وتطير عاليا مطلقة اجنحتها الملونة نحو السماء الزرقاء العالية التي تنتظرها.. وهاهو وليد عوني يكمل رؤيته التاريخية والحضارية للفن المصري في هذا العمل الأخير الذي يقدمه والذي اطلق عليه اسم «مئوية الفنون التشكيلية» والذي أعده احتفالا بهذه المئوية بناء علي طلب من مسئولي الفن التشكيلي في مصر. اختار وليد عوني عددا من كبار الفنانين التشكيليين الذين تحولت اسماؤهم الآن إلي رموز حقيقية لحركات فنية إبداعية يمكن وضع كل فنان اختاره عوني مثالا حقيقيا لها وانعكاسا لأسلوب خاص تميزت به وعرفت من أجله. عوني أختار كل من بيكار والسجيني وحسين فوزي وصلاح عبدالكريم وعبدالهادي الجزار وحامد ندا وحسن فتحي وابتدأ عرضه بتقديم دمي عملاقة صممها ناجي شاكر لعرض الليلة الكبيرة وتحولت الآن إلي رموز حية تتكلم وتروي لنا تاريخ الفن في مصر. قدم عوني لوحات راقصة تمثل أسلوب كل فنان مستغلا إلي أقصي حد الإضاءة والديكور المتحرك واللعب بالنور والظل وتدفق وانسيابية الحركة منسجما مع الوضع الثابت للوحات.. وكأنه يعرض لنا بالحركة الداخلية التي تضمها اللوحة التي أخرجها عوني من إطارها الجامد ليبث فيها الحياة والحركة والدم المتدفق. لاشك أن كل مشاهد.. سيختار لوحات دون أخري ليعجب بها أو ليسجل احترامه لرؤية المبدع الذي يعبر عنها حركيا ويخرجها من إطار الصمت.. إلي إطار الحوار.. حوار تديره أجساد شابة ملأت حرارة الحياة عروقها وتدفقت من دماءها وعرف عوني كيف يجعل منها عقدا أحمر من الياقوت الشفاف الذي يشتعل كالنار عندما تمسه الأضواء. رقة حامد ندا وشفافية شخوصه إلي جانب شموخ صلاح عبدالكريم ولجوءه إلي الكتل الخرسانية الضخمة ليحيلها إلي دانتيلا رقيقة تكاد تهمس بكلمات الحب والكبرياء رؤية حسن فتحي المعمارية التي أصبحت رمزا وأمثولة .. والتي عبر عنها ديكور أبيض يبدو وكأنه يجلل حركات الراقصين بمهابة تراجيدية أخاذة. عبدالهادي الجزار وجنونه العزب وخياله الجامح ورؤاه التي تجمع بين الحقيقي والمستحيل عبر عنه عوني بقوة وكأنه يرسم بالقلم الأسود الغليظ العبارات الخفية التي أراد الجزار أن يهمس بها من خلال خطوطه وشخوصه . وتيوقف وليد عوني عند بيكار وعالمه وشخصياته الراقصة فيجد نفسه في مجاله الذي يسبح فيه .. ولا يمكن أن ينافسه فيه أحد. دوران شخصيات بيكار في ثيابها البيضاء حول نفسها وكأنها فراشات سحرية .. تدور حول نور غامض يحرقها ويحييها في آن واحد. من الصعب تحليل رؤية وليد عوني التشكيلية في نظرته إلي هؤلاء الفنانين الكبار وعالمهم الساحر الخاص.. فوليد إلي جانب كونه مبدعا راقصا فنانا تشكيليا موهوبا كان لمعارضه الأخيرة التي أقامها في القاهرة دوي ورد فعل كبيرين، لذلك فرؤيته الراقصة للفن التشكيلي تنبع أساسا من تدفق إبداعي ومن عين تعرف كيف تمزج اللون بالضوء.. والحركة بالسكون. لقد استغل عوني معرفته الموسيقية وحسه التشكيلي وثقافته الراقصة ليقدم عرضا استثنائيا بكل المقاييس .. ساعده علي السمو به موسيقي طارق شرارة المصاحبة واختياراته لأغاني التراث الشعبي وأغاني الأجواء القديمة علي الأخص أغنية أم كلثوم بالرؤية التي استغلت استغلالا دراميا شديد التوفيق تؤكد علي مهارة طارق شرارة وحسه الموسيقي البديع. هذا العرض الذي تقدمه فرقة الرقص الحديث.. حدث فني مدهش بكل المقاييس وتأكيد جازم لموهبته وإبداع وليد عوني والتي أعلنت عن نفسها منذ عمله الأول الإبداعي في مصر «سقوط الكاروس» وما تلاه من أعمال شديدة الرهافة والشاعرية .. لكن الحديث عنها يحتاج إلي سياق آخر قريب.